الثلاثاء، 18 أبريل 2017

اسم الكتاب: ڤولتير ٥- المجلد الحادى و الخمسون من قصة الحضارة
تأليف: ول ديورانت
ترجمة: علي ادهم
عدد الصفحات: ٣٢٠ صفحة
اصدارات دار نوبليس

لن يكون عصر الاستنارة الفرنسي مستحق لاسمه و تأثيره في حياة الحضارة دون دوره في مكافحة الدين كفاح مرير استخدم فيه كل آليات الانسانية من علم و فلسفة و أدب في اخضاع مؤسسات الدين الكاثوليكية و الكلاسيكية اولا ثم محاولة لاخضاع العالم كله لآليه جديدة طبيعية تفتقر الي تدخل الهي معجزى. لم ينتصر عصر الاستنارة في انزال الاله عن عرشه في قلوب العامة لكنه نجح نجاح مدوى في خلخلة تأثير الدين في النفوس ، نجاح مثير للاعجاب عندما نراه الان بعد كل تلك القرون.

لم يكن الفلاسفة الفرنسيين في عهد الاستنارة جماعات منغلقة متعالية منعزلة في طبقة عليا كاصدقاءهم الايطاليين في عصر النهضة ، و لم يكونوا مقيدين بما اسميناه سابقا "اتفاق الچنتلمان" الذى عقدوه فلاسفة انجلترا في حصر الاراء و الافكار التحررية في طبقة المثقفين ، و لم يكونوا قديسين مثل سپينوزا يعيشون في صومعة الفلسفة  و الزهد ، و لم يكونوا ابدا يساومون كما فعل انسانيو عهد النهضة في خفض اصواتهم مقابل الأمان و التظاهر بالصلاة و تناول القربان المقدس مقابل الحياة الثقافية السرية. كانوا الفلاسفة الفرنسيين نتاج جديد لعصر بهيج ، كانوا أدباء ظرفاء يعرفوا كيف تتألق الافكار في هيئة الكلمات و الاسلوب المنمق الشيق ، كتبوا كتب قصيرة متبلة احيانا بالهجاء الساخر و الالعاب البلاغية و قصص فاحشة احيانا.

عصر كثر فيه الفلاسفة حتى اشتاق لهم الملوك ، فردريك الاكبر يصادق ڤولتير و كاترين الاولى تتباهى بصحبتهم. عصر ما قبل الثورة الفرنسية ملئ بالروكوكو فنى و باعمال تهد الدين من اساسه قطعة بعد قطعة بعد الف عام من العصور الوسطى المحافظة و قرون من النهضة الفنية دينية المتركز و عصر الاصلاح الدينى الذى قسم المسيحية بين بروتسنت و كاثوليك. عصر التنوير الفرنسي الذى فتح الباب لكل شئ بعده.

و نحن اليوم نتعجب كما فعلها ديدرو و ڤولتير و روسو هلڤشيوس و دى هولباخ و لامترى و غيرهم؟ كيف تحدثوا في القرن الثامن عشر عن ما نخاف التحدث فيه في القرن ال٢١؟! كيف ظهر كل هؤلاء في ملكية فرنسا القائمة اصلا علي كنيسة كاثوليكية طقسية ذهبية خالصة تدعم الملكية و الملكية تدعمها في تناغم متبادل بعد قرون من الصراع علي السيطرة؟ يرى ديورانت ان الامر متعلق بخصوصية الكنيسة الفرنسية ذاتها و يقول: "ارتكبت الكنيسة إثماً في الحملات الوحشية التي شنتها ضد الألبيجنسيين وإقرار المذابح الوحشية مثل مذبحة سانت برثلميو، وأشعلت نار الحروب الدينية التي دمرت فرنسا تقريباً. وفي وسط كل هذه الجرائم ضد الروح الإنسانية ادعت الكنيسة، وحملت الملايين من ذوي العقول الساذجة على الاعتقاد بأنها فوق العقل وفوق الريبة والمساءلة، وأنها ورثت وحياً إلهياً، وأنها ممثل الله على الأرض الملهم المعصوم من الخطأ. وأن جرائمها كانت، بإرادة الله مثل حسناتها"

و نحن نتعارض مع ديورانت قليلا و نرى ان هجمة عصر الاستنارة علي الدين لم يكن مقتصرا علي الكاثوليكية ولا الفرنسية و ربما ليست المسيحية وحدها ، بل نراها تتقدم حثيثيا بداية التحرر من الطقوس الي الربوبية الي الالحاد ثم اللاادرية و تظل ترقص رقصتها الخالدة في التقدم و التأخر في ذلك النطاق و تلك المساحة التى خلقتها لنفسها. و نبرر ذلك ان صدى الفلسفة الفرنسية الرشيقة -كمعظم ما قدمته فرنسا الساحرة الي العالم- يخرج من نطاقها المحلي و يخلق تأثيرا مازال يسرى حتى دون كنيسة فرنسية محلية. و نرى ان عصر الاستنارة كان انتقام انسانى من اكثر من ثمانية عشر قرن سيطر فيهم الدين علي المشهد و توارى للحظات قليلة سرعان ما يظهر من جديد.
***********
و في العصر الذى تظهر فيه اسماء عظيمة فلسفية لامعة يجبر انسان عادى بسيط العالم علي تذكر اسمه "جان مسلييه" ١٦٧٨-١٧٣٣ و نحب ان نذكر قصته لكونها مثال قائم في حد ذاته علي عهد الاستنارة.

كان جان راعي أبرشية أتربيني في شمبانيا. وكان في كل عام يمنح الفقراء كل ما تبقى بعد تسديد نفقات حياته المعتدلة البعيدة عن الإسراف والتبذير. وبعد ثلاثين عاماً من حياة هادئة مثالية في وظيفة الراعي، قضي نحبه وهو في الخامسة والخمسين، موصياً بكل ما يملك لأهالي الأبرشية، تاركاً نسخ من مخطوطة عنوانها "عهدي الجديد" وجهت إحداها إلى شعب الأبرشية.

الي هنا قصة كلاسيكية لرجل عاش هادئا مؤدى دوره المجتمعي و مات دون جلبة، قصة رجل تعايش مع قوانين مجتمعه و ابتسم في وجه الجميع ، و قام بنفسه بكل شعائر الكاثوليكية و استمع الي الاعتراف و ناول القربان و كتب كتاب صغير اثناء ذلك. لكن ما لم يتصوره احد هو كم التجديف و الهجوم المتطرف القاسي الممعن في الالحاد لكاهن القرية النائية هذه، و تلك نتفا صغيره من كتابه الثورى:
" إنني لم أتقلد عملاً يتعارض مع مشاعري بشكل صريح طمعاً في المال، بل أني امتثلت في هذا لأبوي"

 "يجدر بنا أن نكون شاكرين أن تهيأ لنا جميعاً نوم أبدى بعد نصب وصخب الحياة الدنيا التي تسبب المشقة أكثر مما تسبب اللذة لغالبيتنا... عودوا جميعاً في سلام إلى المستقر العام الذي جئتم منه، ومروا دون ضجة أو تذمر مثل كل الكائنات التي حولكم"

 " أقلية ضئيلة، على زعمها، حققت هذا الهدف، على حين كان مآل الأغلبية إلى الجحيم. فكيف إذن يمكن أن تكون فكرة الخلود عزاء؟ إن العقيدة التي تخلصني من المخاوف الرهيبة... تبدو مرغوباً فيها أكثر من الشك الذي تركني مؤمناً باله يتحكم في عطفه فلا يمنحه إلا لذوي الحظوة لديه، ويهيئ للآخرين السبيل ليكونوا جديرين بالعذاب الأبدي، فكيف يمكن لأي إنسان متحضر أن يؤمن باله يحكم على المخلوقات بالخلود في الجحيم؟"

"هل هناك في الطبيعة إنسان بلغ من القسوة حداً يتعمد فيه تعذيب، لا أقول رفاقه من الكائنات، بل أي كائن واعٍ حساس أياً كان؟ فأقروا إذن يا رجال اللاهوت أن إلهكم طبقاً لمبادئكم، شرير أكثر بكثير من أي شرير من بني الإنسان. إن القساوسة ورجال الدين جعلوا من الإله كائناً خبيثاً ماكراً صارماً إلى حد أن فئة قليلة في هذه الدنيا هي التي لا تود أن يكون الإله موجوداً... وأية أخلاق نتحلى بها إذ كنا نقلد هذا الإله"

"اله المسيحية هو منشئ كل الشرور، لأنه حيث أنه قادر على كل شئ يتم دون رضاه وموافقه، فإذا وهبنا الحياة فإنه كذلك كتب علينا الموت، وإذا وهبنا الصحة والثروة ، فإنه يعوض منهما بالفقر والقحط والمصائب والحروب"

"دعهم يفكروا أو يحكموا ويقولوا ويفعلوا ما يريدون... لن أعبأ بهم كثيراً... بل إني اليوم لم أعد أعبأ كثيراً بما يحدث في العالم. إن الأموات الذين أوشك أن ألحق بهم قريباً، لا يعانون الآن شيئاً ولم يعودوا يزعجون أنفسهم. ومن ثم فأنا أضع نهاية لكل هذا. أنا الآن أشبه شئ بالعدم، وبعد قليل سأصبح لا شئ حقاً"

و تبدو كلمات مسلييه قاسية مجحفة متشددة غارقة في الالحاد الخام و المادية المطلقة بل انها اثارت فزع ڤولتير المائل الي الربوبية نفسه و ود لو انها كانت اكثر هدوءا لتكون مؤثرة اكثر في حملة جيله، و تصور معي الكاهن المنعزل مجرداً من كل عقيدة ومن كل أمل، وهو يعيش منسياً لا ذكر له في قرية قد ترتعد فيها كل النفوس رعباً ورهباً، إلا نفسه هو، لمجرد الإطلاع على أفكاره الخفية. ولهذا لم يتحدث بمثل هذه الحرية إلا لمخطوطته.

دخل مسلييه التاريخ من باب انه الرجل الذى فكر كثيرا و لم يتحدث ابدا.
************
و اخطر ما واجهت الكنيسة كانت "المادية" و هى اقوى اسلحة العلم في مواجهة الدين عموما. ان الكون آلي مادى يسير بلا مسير و سابقا انقذ نيوتن نفسه من براثنها بقوة ايمانه و باسكال بما تبقت في روحه من تعالم البور رويال. لكن من يحمى العالم في ذلك القرن حين يتواجد به "جوليان أجوفروى دى لامترى" ؟ ... و اليوم يصل لنا صيت لامترى كمؤسس للمادية و نصيرها الاشهر رغم ظهور المصطلح قبله و بعده. قرر لامترى الطبيب و العالم و الفيلسوف ان الانسان آله و نشر كتابه الذى انشغلت اديان الدنيا الي اليوم في تفنيد افكاره و محاولة السيطرة علي تأثيره. ولم يكن لامتري ملحداً صريحاً. إنه تظاهر بالميل إلى نبذ موضوع الإله على أنه غير هام "فليس يهمنا من أجل راحة البال، إذا كانت المادة أبدية أو أنها خلقت، أو أنه يوجد أو لا يوجد إله" . و الحقيقة ان معضلة المادية عطلت حركة الاستنارة ذاتها لان كلا من ڤولتير الكيّس و ديدرو المنطلق تمسكا ب"محرك أول" لآله العالم و بالتالي فشلت حركة الاستنارة في تبنى موقف متماسك في تلك النقطة.

و يحب ديورانت "ديدرو" و ان لم يقل معبرا عن ذلك بطول الجزء المخصص لحياته و تقلباته الفكرية و غموضه و الاهم ما قدمته "الموسوعة" لعصر الاستنارة و ما تبعها ، و نحن كقراء نحزن عندما نعلم ان عمل مؤسسي ضخم هام في حركة الحضارة كالموسوعة لم تترجم الي لغتنا العربية من الاصل و نجبر علي قراءة مقتطفات مختارة دون غيرها. و الموسوعة بدأت كعمل ثقافي شامل تحت اشراف ملكى يقدم مقتطف سريع عن كل الاشياء عن التشريح و التاريخ و الصناعات اليدوية و اللاهوت و الذاكرة و السياسة و الجغرافيا علي السواء. و مما نطلع عليه منها -نظرا لعدم توفر المصدر الاصلي بلغتنا- انها عمل ضخم موجه للجمهور اصلا و ليس للنخبة او لطبقة و ان رواد التنوير قرروا زرع افكار كثيرة صغيرة مشتتة بين المقالات المختلفة لبث ما فكروا به. و يسميها ديورانت "انجيل المعرفة" و رأها ثورة قبل الثورة.

و استمر ڤولتير في حملته الضارية ل"القضاء علي الرجس" متحركا كالمكوك رغم سنه و صحته في حملة شعواء نشطة قل ان حظت بها فترة من التاريخ ... و نحن اذ ننتقل الي المجلد التالى من قصة الحضارة ندخل الي فرنسا الثورة الفرنسية و روسو و مرحلة اخرى من قصة الحضارة التى صرنا نخشي ان تنتهى و تتركنا وحدنا بلا صديق مخلص مثلها.

دينا نبيل
فبراير ٢٠١٧












0 التعليقات:

إرسال تعليق

حلو؟؟ وحش؟؟ طب ساكت ليه ما تقول....