السبت، 27 نوفمبر 2010

المعطف...نيقولاى جوجول "1"

صدقوك فقالوا : ظهرت قصة (المعطف) عام 1842وكانت آخر ما كتبه غوغول وأروعه. واعتبرت مرحلة هامة في تطور الأدب الواقعي للقرن التاسع عشر ورائدة القصة القصيرة الحديثة.
"We all came out from under Gogol's 'Overcoat'

المعطف قصه قصيره من ابداعات الرائع جوجول اللى بدع فيها فى التصوير كالعاده و مزج المأساه بالكوميديه....
 من الاخر اقدم لكم القصه القصيره "المعطف" انصح بقرائتها بشده :


المعطف
ترجمة: د. أبو بكر يوسف


في إحدى الادارات كان يعمل أحد الموظفين. . موظف لا نستطيع أن نقول عنه أنه كان بارزاً جداً، بل كان قصير القامة، مجدوراً إلى حد ما وأحمر الشعر إلى حد ما، بل ويبدو أعمش إلى حد ما، بصلعة صغيرة فوق الجبين وتجاعيد على كلا الخدين، أما لون وجهه فكان كما يقال بواسيريا .. وما العمل؟! الذنب في ذلك ذنب جو بطرسبورغ. أما فيما يتعلق برتبته (لأنه من الضروري عندنا أن نعلن عن الرتبة قبل كل شيء) فقد كان ممن يسمون بـ "المستشارين الاعتباريين" (1) الخالدين الذين سخر منهم وهزئ بهم ما وسعهم، كما هو معروف، شتى الكتاب من ذوي العادة المحمودة في التهجم على أولئك الذين لا يحسنون العض. وكان اسم عائلة الموظف بشماتشكين. وكان اسم الموظف أكاكي أكاكيفتش. أما متى وفى أي وقت التحق بالادارة ومن الذي ألحقه بها، فهذا ما لم يستطع أحد أن يتذكره. فهمها تغير المدراء والرؤساء فقد كان الجميع يرونه دائماً في نفس المكان وفي نفس الوضع وفي نفس الوظيفة، أي موظف كتابة، حتى أنهم آمنوا فيما بعد بأنه، على ما يبدو، قد ولد هكذا جاهزا، في حلته الرسمية وبصلعة في رأسه. ولم يكن يحظى في الادارة بأي احترام. فالحراس لم يكونوا ينهضون عند رؤيته، ليس هذا فحسب، بل حتى لم يكونوا ينظرون إليه، كما لو كانت مجرد ذبابة هي التي طارت عبر صالة الاستقبال. أما الرؤساء فكانوا يعاملونه بطريقة باردة. فأي مساعد من مساعدي الرئيس القلم كان يدس الأوراق تحت أنفه مباشرة حتى دون أن يقول له: "انسخها" أو "هاك عملا طريفا طيبا" أو أية كلمات طيبة كما جرت العادة في المكاتب المهذبة. أما هو فكان يتناول الأوراق متطلعا إليها وحدها دون أن ينظر إلى من قدمها له وهل يملك الحق في ذلك أم لا. كان يتناولها ويشرع على الفور في نسخها. وكان الموظفون الشبان يسخرون منه وينكتون عليه بقدر ما كانت تسمح به روح النكتة المكتبية، ويروون أمامه شتى الحكايات التي ألفوها عنه، ويقولون عن مدبرة بيته وهي عجوز في السبعين من عمرها، أنها تضربه ويسألونه متى سيحتفلون بزواجهما، ويهيلون الأوراق على رأسه قائلين أنه الثلج يسقط. ولكن أكاكي أكاكيفتش لم يكن يرد على ذلك بكلمة واحدة، كأنما لم يكن يقف أمامه أحد. بل ان ذلك حتى لم يؤثر على عمله، اذ لم يكن يرتكب خطأ واحداً في الكتابة وسط كل هذه السخريات. وفقط عندما تكون النكتة غير محتملة، وعندما كانوا يدفعونه في ذراعه، فيعوقونه عن العمل، كان يقول: "دعوني في حالي، لماذا تهينونني؟" كان يبدو ثمة شيء غريب في كلماته وفي الصوت الذي قيلت به. كان فيها شيء غريب في الشفقة ، حتى أن موظفا شابا التحق بالوظيفة حديثا وكان قد سمح لنفسه بالسخرية منه كما يفعل الآخرون، توقف فجأة كالمصعوق، ومن يومها بدا وكأنه كل شيء قد تغير أمام عينيه وتبدى في صورة أخرى. ودفعته قوة غير طبيعية مجهولة بعيداً عن زملائه الذين صاحبهم باعتبارهم أشخاصا محترمين مهذبين. وظل هذا الموظف بعد ذلك ولفترة طويلة وفي أوج لحظات المرح يتذكر الموظف القصير ذا الصلعة فوق الجبين بكلماته النافذة "دعوني في حالي، لماذا تهينونني؟".. وترن في هذه الكلمات النافذة كلمات أخرى: "أنا مثل أخيك". فكان الشاب المسكين من يغطي وجهه بيديه ويرتجف مرات ومرات عديدة بعد ذلك طوال عمره وهو يرى ما في الانسان من لا انسانية وإلى أي مدى تختفي الفظاظة الوحشية في التهذيب الراقي المرهف ويا الهي حتى في ذلك الانسان الذي يعتبره المجتمع نبيلا وشريفا.
ومن النادر أن تجد شخصا يتفانى في عمله إلى هذا الحد. فلا يكفي أن نقول أنه كان يعمل بغيرة، كلا، لقد كان يعمل بعشق. كان يرى في ذلك النسخ عالما خاصا به، عالما متنوعا ولطيفا. وكانت المتعة تتجلى في وجهه. وكانت بعض الحروف أثيرة لديه، وعندما يبلغها لا يعود يسيطر على نفسه. كان يضحك ويغمز بعينه ويساعد بشفتيه على كتابتها، حتى أنه كان يبدو أنه بالامكان أن تقرأ على وجهه الحرف الذي كان قلمه يخطه. ولو أنهم كافأوه بقدر حميته فربما أصبح، ولدهشته هو، من مستشاري الدولة.(2) ولكنه، وكما قال زملاؤه المازحون. نال من الخدمة فتلة في عروة وفاز بمرض البواسير وألم الظهر. وعموما فلا يمكن أن نقول أنه لم يحظ بأدنى اهتمام. فقد أراد أحد المدراء، وكان رجلاً طيباً، أن يكافئه على النسخ، فكلفوه بأن يعد مذكرة من واقع ملف جاهز بالفعل لارسالها إلى جهة أخرى. ولم يكن الأمر يتعدى أكثر من تغيير العنوان الرئيسي وتعديل بعض الافعال من صيغة المتكلم إلى الغائب. ولكنه كلفه من الجهد ما جعله يعرق تماما ويحك جبينه، وأخيرا قال: "كلا، من الأفضل أن تعطوني شيئا ما أنسخه". ومن يومها أبقوه للنسخ إلى الأبد. وكان يبدو أنه لا يوجد بالنسبة له أي شيء خارج هذا النسخ. لم يكن يفكر في ملابسه أبدا: فحلته لم تكن خضراء اللون، بل ذات لون أحمر طحيني ما. وكانت ياقتها ضيقة، قصيرة، حتى أن عنقه، رغم أنه لم يكن طويلا، كان يبرز من الياقة ويبدو طويلا بصورة غير عادية. وكان يعلق بحلته دائما شيء: إما قطعة قش أو خيط ما. وعلاوة على ذلك كانت لديه مهارة خاصة أثناء سيره في الشارع في أن يتواجد تحت النافذة بالضبط في الوقت الذي يلقون منها شتى الفضلات، ولذلك كان يحمل على قبعته دائما قشر البطيخ والشمام وغير ذلك من التفاهات. ولم يحدث مرة واحدة في حياته أن التفت إلى ما يجري ويحدث كل يوم في الشارع ولا حتى إلى ما ينظر دائماً إليه أخوه الموظف الشاب. كما هو معروف، والذي تمتد نظرته الثاقبة النشطة إلى حد أنه يلاحظ على الرصيف الآخر من تفتقت ربطة ساق سرواله، الأمر الذي يجعل الابتسامة الخبيثة تظهر على وجهه.
أما أكاكي اكاكيفتش فحتى لو نظر إلى شيء فما كان ليرى فيه سوى سطوره النظيفة المكتوبة بحط منمق، اللهم إلا إذا استقرت على كتفه فجأة سحنة حصان لا يعلم أحد من أين جاءت ونفثت بمنخاريها في خده ريحا قوية. عندها فقط كان يلاحظ أنه ليس في وسط السطر، بل على الأرجح في وسط الشارع. وعندما يعود إلى المنزل كان يجلس على الفور إلى المائدة، فيلتهم بسرعة حساء الكرنب وقطعة لحم البقر بالبصل دون أن يحس أبدا بطعمها، وكان يأكل ذلك مع الذباب وكل ما كان الله يرسله في تلك الساعة. وعندما كان يلاحظ أن معدته بدأت تنتفخ ينهض من أمام المائدة ويستخرج دواة الحبر ويبدأ ينسخ الأوراق التي جاء بها معه إلى البيت. فإذا لم تكن لديه مثل هذه الأوراق كان يقوم بعمل نسخة لنفسه، فقط من أجل المتعة الشخصية، خاصة إذ كانت الورقة رائعة لا من حيث جمال صياغتها، بل من حيث انها مرسلة إلى شخصية جديدة أو هامة.
وحتى في تلك الساعات التي تنطفئ فيها تماما سماء بطرسبورغ الرمادية، وبعد أن تكون جماعة الموظفين كلها قد تعشت وشبعت، كل منهم حسب ما يتقاضاه من مرتب وحسب رغباته الخاصة، وبعد أن يكون الجميع قد ارتاحوا من صرير اقلام الادارات والركض بعد أداء الأعمال الخاصة واعمال الآخرين الضرورية، بعد كل ما يكلف به الانسان الذي لا يهدأ نفسه عن طواعية، بل وبأكثر مما ينبغي... وعندما يسرع الموظفون إلى تخصيص ما تبقى من وقت للمتعة: فالأنشط منهم ينطلق إلى المسرح، ومنهم من يخرج إلى الشارع مخصصا هذا الوقت للتطلع إلى بعض القبعات، ومنهم من يذهب إلى حفل ما لينفق الوقت في اسداء المديح لفتاة ما مليحة تعد نجمة من نجوم اوساط الموظفين الضيقة، ومنهم من يذهب ، وهذا هو الأكثر، إلى أخيه الذي يسكن في الطابق الرابع أو الثالث، في شقة من غرفتين صغيرتين ومدخل أو مطبخ وببعض ادعاءات الموضة كمصباح مثلا أو قطعة أثاث كلفت أصحابها تضحيات كثيرة وحرمانا من وجبات الغداء والنزهات.. وباختصار فحتى في الوقت الذي يجلس فيه الموظفون في شقق زملائهم الصغيرة ليلعبوا الورق وهم يرشفون الشاي من الأكواب مع قطع الخبز المحمص الرخيص وينفثون الدخان من الغلايين الطويلة ويروون أثناء توزيع الورق شائعة ما وردت من المجتمع الراقي..وباختصار فحتى عندما يسعى الجميع إلى اللهو فان اكاكي اكاكيفتش لم يكن يلجأ إلى أي لهو. ولا يستطيع أحد أن يقول أنه رآه في وقت ما في احدى الحفلات. فبعد أن يشبع من النسخ يأوي إلى فراشه وهو يبتسم سلفا مفكرا في يوم الغد: فغدا سيرزقه الله بشيء ما لينسخه. هكذا كانت تمضي حياة هذا الرجل الوادعة، هذا الرجل الذي كان راضيا عن حظه بالاربعمائة روبل التي يتقاضاها في السنة، وربما مضت إلى أرذل العمر لولا وجود شتى المصائب المتناثرة على درب الحياة ليس فقط أمام المستشارين الاعتبارين. بل والمستشارين السريين الفعليين ومستشاري البلاط(3) وغيرهم من المستشارين وحتى اولئك الذين لا يقدمون استشارات لأي شخص ولا يطلبون المشورة من أحد. لا يقدمون استشارات لأي شخص ولا يطلبون المشورة من أحد.
ثمة في بطرسبورغ عدو لدود لكل من يتقاضى اربعمائة روبل في السنة أو زهاء هذا. وهذا العدو ليس إلا صقيعنا الشمالي، بالرغم من أنه يقال أنه مفيد جدا للصحة. ففي بداية الساعة التاسعة صباحا، وبالذات عندما تكتظ الشوارع بالذاهبين إلى العمل يبدأ هو في توجيه لذعات حادة قوية إلى جميع الأنوف دونما تمييز، حتى أن الموظفين المساكين لا يعرفون ابدا أين يخفونها. وفي تلك الساعة يشعر حتى أولئك الذين يشغلون مناصب عليا بألم في جباههم من البرد، وتطفر الدموع من عيونهم، أما المستشارون الاعتباريون المساكين فيصبحون أحيانا بلا حماية. والمخرج الوحيد هو أن يركضوا في معاطفهم الهزيلة بأسرع ما يستطيعون ليقطعوا خمسة أو ستة شوارع، ثم يدقون بأقدامهم جيدا في المدخل حتى يذيبوا بهذه الطريقة كل ما تجمد في الطريق من قدرات ومواهب على أداء الأعمال الوظيفية. ومنذ فترة قريبة بدأ أكاكي اكاكيفتش يحس بوخز شديد خاصة في ظهره وكتفه، على الرغم من أنه كان يحاول أن يقطع بأسرع ما يمكن المسافة المشروعة. وأخيرا فكر: ألا يرجع ذلك إلى بعض العيوب في معطفه. وعندما فحصه جيدا في المنزل اكتشف أنه أصبح في موضعين أو ثلاثة، وبالذات عند الظهر والكتفين، مثل الخيش تماما، فقد رق نسيجه إلى درجة أن الهواء صار ينفذ خلاله، اما البطانة فقد تهرأت. وينبغي أن نعرف أن معطف اكاكي اكاكيفتش كان أيضا مادة لسخريات الموظفين، بل لقد نزعوا عنه اسم المعطف النبيل وسموه قبوطا. وبالفعل فقد كان شكله غريبا. كانت ياقته تصغر عاما بعد عام لأنها كانت تستخدم في ترقيع الأجزاء الأخرى. ولم يظهر الترقيع مهارة الخياط، فكانت الرقع تبدو قبيحة وخرقاء. وعندما عرف اكاكي اكاكيفتش حقيقة الأمر قرر أن يأخذ المعطف إلى بتروفتش، الخياط الذي يقطن في شقة ما بالطابق الرابع من ناحية سلم الخدم والذي كان رغم عوره ووجهه المجدور كله يزاول بنجاح كبير تصليح معاطف الموظفين وسراويلهم وحللهم وما إلى ذلك، بالطبع عندما يكون مفيقا وليس في رأسه مشاريع أخرى. وما كان هذا الخياط ليستحق منا أن نتحدث عنه كثيرا، ولكن بما أن العادة جرت أن يحدد في القصة طبع كل شخصية بوضوح تام، فلا حيلة اذن، هيا قدموا لنا بتروفتش أيضاً. كان في البداية يدعى ببساطة غريغوري، وكان من رقيق الأرض عند أحد السادة. ثم أصبح يدعى بتروفتش عندما أعتق واصبح يسكر بشدة في جميع الأعياد، في البداية في الأعياد الكبيرة، وبعد ذلك دون تمييز في جميع الأعياد الدينية وحيثما وضعت اشارة الصليب أمام أي يوم من أيام التقويم.
وبينما كان اكاكي اكاكيفتش يصعد السلم المؤدي إلى بتروفتش أخذ يفكر في المبلغ الذي سيتطلبه بتروفتش وقرر في ذهنه ألا يعطيه أكثر من روبلين. كان الباب مفتوحا لأن ربة تقلي سمكا. فملأت المطبخ بالدخان إلى درجة أنه لم يعد من الممكن حتى رؤية الصراصير نفسها. ومر اكاكي اكاكيفتش عبر المطبخ، حتى دون أن يلاحظ ربة البيت ذاتها، إلى أن وصل أخيراً إلى غرفة رأى فيها بتروفتش جالساً على طاولة خشبية عريضة غير مطلية طاويا قدميه تحت كالباشا التركي. وكانت قدماه كعادة الخياطين الجالسين إلى عملهم، عاريتين. وأول ما لفت نظر اكاكي اكاكيفتش تلك الأصبع الكبيرة المعروفة جداً له ذات الظفر المشوه، الاصبع السمينة القوية كصدفة السلحفاة. ومن رقبة بتروفتش تدلت ثلة من الحرير والخيوط، وعلى ركبتيه حشو ما. كان منذ حوالي ثلاث دقائق يحاول دخال الخيط في ثقب الابرة ولا يستطيع ولذلك كان ساخطا على العتمة، بل وحتى على الخيط نفسه وهو يدمدم بصوت خافت: "لا يدخل هذا الوغد، أيها الملعون، أنهكتني!" وشعر اكاكي اكاكيفتش بالضيق من مجيئه في هذه اللحظة التي كان بتروفتش فيها غاضبا، فقد كان يحسب أن يوصي بتروفتش على شيء ما عندما يكون الأخير منتعشاً بعض الشيء أو كما كانت زوجته تقول: "عبّ من الهباب المسكر هذا الشيطان الأعور". ففي مثل هذه الحالة كان بتروفتش في العادة يتنازل ويوافق عن طيب خاطر، بل كان ينحني كثيرا ويلهج بالشكر. صحيح أن زوجته كانت تأتي بعد ذلك وهي تعول وتشكو من أن زوجها كان آنذاك ثملا ولذلك وافق على ثمن بخس. ولكن الأمر كان ينتهي بزيادة عشر كوبيكات فقط وتسوى الأمور. أما الآن فيبدو أن بتروفيتش غير ثمل، ولذلك فهو صعب المراس، لا يلين، وسيطلب على الأرجح ثمنا باهظا. أدرك اكاكي اكاكيفتش ذلك وأراد كما يقال أن يعود أدراجه. ولكنه كان قد بدأ الأمر. زر بتروفيتش عينه الوحيدة مسددا نظرتها الثاقبة إليه، فتفوه اكاكي اكاكيفتش مسلوب الارادة:
- مرحبا، يا بتروفيتش.
فقال بتروفيتش:
- مرحبا بكم، يا سيدي، - ونظر بطرف عينه نحو يدي اكاكي اكاكيفتش رغبة منه في أن يعرف ما هو الصيد الذي جاء به هذا إليه.
- ها أنذا قد جئت إليك، يا بتروفيتش، بهذا.. يعني.. وينبغي أن نعرف أن اكاكي اكاكيفتش كان يعبر عن أفكاره في أغلب الأحوال بحروف الجر والظروف وأخيرا بالادوات التي ليس لها أي معنى على الاطلاق. أما اذا كانت المسألة صعبة جدا فقد كان من عادته ألا ينهي الجملة ابدا. ولذلك كان كثيرا ما يبدأ حديثه بهذه الكلمات: "هذا في الواقع.. يعني تماما.." وبعد ذلك لا يقول شيئاً، وينسى هو نفسه، وهو يظن أنه قد قال كل شيء.
- ما هذا؟ - قال بتروفيتش وتفحص أثناء ذلك بعينه الوحيدة حلة اكاكي اكاكيفتش كلها ابتداء من الياقة حتى الاكمام والظهر والصدر والعراوي كل ما كان معروفا لديه جيدا لأنه كان من صنع يديه. تلك عادة الخياطين، وهذا أول ما يفعله الخياط عندما يلقاك.
- وها أنذا، يا بتروفيتش، يعني.. المعطف.. الجوخ.. انظر، في كل مكان آخر ما زال متيناً، لقد تعفر قليلا، ويبدو وكأنه قديم، لكنه جديد، فقط في مكان واحد يعني.. على الظهر، وأيضاً هنا على كتف واحدة تلف قليلا، وعلى هذه الكتف أيضاً قليلا، أترى، هذا كل شيء ، عمل قليل..
أخذ بتروفتش القبوط وبسطه على الطاولة أولا وفحصه طويلا وهز رأسه ومد يده إلى النافذة ليأخذ علبة السعوط المستديرة والمرسوم عليها صورة جنرال ما، لا يعرف أي جنرال هو لأن المكان الذي كان وجهه مرسوما عليه قد ثقب وغطى بقطعة ورق مربعة واستنشق بتروفتش السعوط وبسط المعطف بين يديه وفحصه في مواجهة النور وهز رأسه ثانية. ثم قلبه، فجعل بطانته إلى أعلى وهز رأسه من جديد، ونزع من جديد غطاء العلبة بصورة الجنرال المغطى بورقة، وبعد أن حشا أنفه بالسعوط أغلق العلبة وخبأها وأخيرا قال:
- كلا، لا يمكن اصلاحه، ملبس بال.
أحس اكاكي اكاكيفتش عند سماعه هذه الكلمات بوخزة في قلبه.
- ولماذا لا يمكن، يا بتروفتش؟ - قال بصوت ضارع كصوت الطفل تقريبا. – كل ما فيه أنه أصبح خفيفا عند الكتفين، وأنت لديك حتما قطع ما.
- نعم، يمكن أن أجد قطعا، القطع موجودة، - قال بتروفيتش . – لكن لا يمكن تثبيتها. النسيج مهترئ تماما. ما أن تلمسه بالابرة حتى يتفسخ.
- فليتفسخ، أما أنت فلتضع رقعة على الفور.
- ليس هناك ما توضع عليه الرقعة، لا يوجد ما تثبت عليه، انه مستهلك جدا. الاسم فقط جوخ، ولكن لو هبت عليه الريح فسيتطاير.
- حاول أن تثبتها. كيف اذن في الواقع يعني؟!
- كلا، - قال بتروفتش بحسم. – لا يمكن عمل شيء.
أما المعطف فيبدو أنك ستضطر إلى تفصيل واحد جديد.
عند سماع كلمة "جديد" غامت عينا اكاكي اكاكيفتش واختلط أمام نظره كل ما كان في الغرفة. لم ير بوضوح سوى الجنرال بوجهه المغطى بورقة على غطاء علبة سعوط بتروفتش.
- معطف جديد.. كيف؟ - قال وكأنما لا يزال نائما. – ليس لدي نقود لذلك.
- نعم، جديد، - قال بتروفتش بهدوء وحشي.
- واذا اضطررت إلى معطف جديد فكيف يعني هو..
- تقصد كم يساوي؟
- نعم.
- ثلاث ورقات من فئة الخمسين أو أكثر قليلا سيكون عليك أن تدفع، - قال بتروفتش وزمّ شفتيه زمة ذات مغزى. كان يحب جدا التأثيرات القوية، كان يحب أن يربك من أمامه فجأة بطريقة ما، ثم ينظر بعد ذلك بطرف عينه إلى التعبير الذي يكسو ملامح الشخص المرتبك بعد سماع كلمات الخياط.
وصرخ اكاكي اكاكيفتش المسكين:
- مائة وخمسون روبلا لمعطف! – صرخ ربما لأول مرة في حياته، فقد كان معروفا دائما بصوته الخافت.
- نعم، - قال بتروفتش. – وهذا يتوقف أيضاً على نوع المعطف. فلم وضعنا على الياقة فراء سنسار وبطنّا القلنسوة بالحرير فيصل إلى المائتين.
- بتروفتش، أرجوك، - قال اكاكي اكاكيفتش بصوت ضارع وهو لا يسمع ولا يحاول أن يسمع ما قاله بتروفتش من كلمات وجميع تأثيراته. – أصلحه بأي شكل، لكي أستخدمه ولو فترة أخرى.
- كلا، هذا لا يمكن. سيكون ذلك اهدارا للعمل وتضييعا للنقود عبثا، - قال بتروفتش، فخرج اكاكي اكاكيفتش من عنده بعد هذه الكلمات محطما تماما.


(1) رتبة مدنية في روسيا القيصرية من الرتب الدنيا تعادل رتبة النقيب العسكرية.
(2) رتبة مدنية تعادل رتبة نائب مدير الادارة.

(3) رتب مدنية في روسيا القيصرية.


يتبع....

3 التعليقات:

آخر أيام الخريف يقول...

شكلها جامدة جدااااااااااا ..هحطها فى الفيفوريتس لحد ما اروق و اقراها بمزاج :)))

تسلميلى يا قمرة ..تعيشى و تقرينا حاجات حلوة زيك :)

د/دودى يقول...

هى تستحق القرايه فعلا ...لا و النهايه عجيبه كمان + جوجول لوحده متعه فعلا ...

احلى حاجه فيكوا انكم مش محسسنى انى بكلم نفسى

سكندري يقول...

علي فكرة أنا اضحك عليا
أنتي قلتي قصة قصيرة
دي طلعت قصة طــــــــويـــــلــــــــة
دي رواية ... (: (:
انا قريت الجزء الأول و لما أكمل ابقي أقول رأيي و أشوف أيه حكاية المعطف دي

إرسال تعليق

حلو؟؟ وحش؟؟ طب ساكت ليه ما تقول....