السبت، 27 نوفمبر 2010

المعطف...نيقولاى جوجول "2"

الجزء التانى من القصه القصيره "المعطف" ل الرائع نيقولاى جوجول

أما بتروفتش فقد ظل بعد خروجه واقفا مدة طويلة وقد زمّ شفتيه زمة ذات مغزى، وهو لا يشرع في العمل، وقد أرضاه أنه لم يفرط في كرامته، كما أنه لم يخنْ فنه كخياط.
عندما خرج اكاكي اكاكيفتش إلى الشارع كان كأنما في حلم. ومضى يحدث نفسه: "يا له من أمر، يا لها من قضية. في الحقيقة لم أكن أظن أن المسألة يعني ستكون..". وبعد فترة صمت استطرد: "هكذا إذن. هذا حقا غير متوقع أبدا يعني.. ابدا لكن.. يا لها من مسألة!" وبعد أن قال ذلك وبدلا من أن يذهب إلى البيت سار في اتجاه آخر تماما، وهو لا يدري. وفي الطريق احتك به منظف مداخن بجنبه الملوث، فسوّد له كتفه كلها. وانهال عليه كوم من الملاط من قمة منزل يجري بناؤه. فلم يلاحظ ذلك كله، وفيما بعد عندما اصطدم بالدركي الذي كان قد اسند بلطته إلى جواره وأخذ ينفض التبغ من علبة تبغه فوق راحته الخشنة، عندها أفاق اكاكي اكاكيفتش قليلا، وذلك فقط لأن الحارس قال له: "ما لك تندفع مصطدما بالسحنة، أليس أمامك رصيف؟" وقد جعله ذلك ينبه ويعود أدراجه إلى المنزل. وهنا فقط بدأ يستجمع شتات أفكاره، فرأى وضعه في صورته الحقيقية الواضحة وأخذ يحدث نفسه لا بعبارات متقطعة، بل بحكمة وصراحة كأنما يتحدث إلى زميل راجح يمكن أن تفضي إليه بأخص أسرار القلب. قال اكاكي اكاكيفتش: "لا، لا يمكن. الكلام مع بتروفتش الآن مستحيل، فهو الآن يعني .. يبدو أن زوجته ضربته علقة بشكل ما. الأفضل أن أذهب إليه صباح الأحد. فبعد السبت سيكون زائغ النظرات ونعسان وبحاجة إلى الشراب، وزوجته لن تعطيه نقودا. وعندئذ أدس يعني في يده عشرة كوبيكات، فيصبح الاتفاق معه أسهل، وعندئذ سيأخذ المعطف يعني.." هكذا حدث اكاكي اكاكيفتش نفسه وشجعها، وانتظر حلول يوم الأحد، وعندما رأى من بعيد زوجة بتروفتش تخرج لأمر ما من المنزل، توجه إليه مباشرة. وبالفعل كان بتروفتش بعد السبت زائغ النظرات بشدة، ورأسه مدلى نحو الأرض، وكان نعسان جداً. ورغم كل ذلك فما أن عرف بالأمر حتى اعتدل كأنما وخزه الشيطان وقال: "لا يمكن .. فلتتكرم بتفصيل معطف جديد". وهنا دس اكاكي اكاكيفتش في يده عشرة كوبيكات. فقال بتروفتش: "أشكرك، يا سيدي، سأشرب قليلاً في صحتك. أما بخصوص المعطف فلا تقلق، انه لا ينفع لأية منفعة. سأخيط لك معطفاً جديداً عظيماً، على هذا اتفقنا."
وأراد اكاكي اكاكيفتش أن يفتح فمه ليتحدث عن التصليح، ولكن بتروفتش لم يصغ إليه وقال: "سأخيط لك واحداً جديداً من كل بد، وبوسعك أن تعتمد علي في ذلك، سأبذل جهدي. ومن الممكن حسب الموضة الآن أن أركب الياقة بمشابك فضية".
وعندها أدرك اكاكي اكاكيفتش أنه لا يمكن التنصل من تفصيل معطف جديد، فانهار تماما. وبالفعل كيف يمكن أن يفصله، بأية نقود؟ ومن أين له؟ بالطبع كان من الممكن الاعتماد جزئياً على المكافأة القادمة بمناسبة العيد، ولكن هذا المبلغ قد وزع وحددت أوجه انفاقه سلفا منذ زمن بعيد. فقد كان من المطلوب اقتناء سروال جديد وتسديد دين قديم للاسكافي مقابل تركيب رقبة جديدة للحذاء القديم، وكان عليه أيضاً أن يوصي الخياطة على ثلاثة قمصان وعلى قطعتين من تلك الملابس التي لا يليق ذكر اسمها في نص مطبوع، وباختصار كان من المفروض انفاق المبلغ كله، وحتى لو تكرم المدير وصرف له بدلا من الاربعين روبلا المقررة خمسة وأربعين أو خمسين فلن يتبقى منها مع ذلك سوى شيء تافه لن يكون في رصيد المعطف سوى قطرة في بحر. رغم أنه كان يعرف طبعاً أنه كان من عادة بتروفتش أحياناً أن يطلب فجأة مبلغا لا يعقل، حتى أن زوجته كانت لا تتمالك نفسها فتصيح به: "ماذا دهاك، هل جننت، أيها الأحمق؟! مرة لا يرضى أن يعمل بأي حال، والآن يدفعه الشيطان إلى طلب سعر لا يساويه المعطف حتى مقابل ثمانين روبلا، ومع ذلك فمن أين يأتي بالثمانين روبلا هذه؟ ربما أمكن تدبير نصف المبلغ، نعم، ربما وجد نصفه، بل وربما أكثر قليلا، ولكن من أي يأتي بالنصف الآخر؟.. ولكن ينبغي أولاً أن يعرف القارئ من أين جاء النصف الأول. كان من عادة اكاكي اكاكيفتش أن يوفر من كل روبل ينفقه نصف كوبيك ويضعه في صندوق صغير يقفل ذي فتحة في غطائه لالقاء النقود فيها. وكان كل نصف عام يغير قطع النقود النحاسية المتجمعة هناك بقطع فضية. هكذا كان يفعل منذ زمن طويل، وعلى هذا النحو تجمع لديه خلال عدة سنوات مبلغ يفوق الأربعين روبلا. وهكذا فقد كان معه نصف المبلغ، ولكن من أين يأتي بالنصف الآخر؟ وفكر اكاكي اكاكيفتش طويلا، ثم قرر أنه ينبغي عليه أن يخفض نفقاته العادية، ولو خلال عام واحد على الأقل: أن يمتنع عن تناول الشاي كل مساء، ولا يشعل الشمعة مساء، فإذا تطلب الأمر أن يعمل فليذهب إلى غرفة صاحبة البيت ويعمل هناك على ضوء شمعتها وأن يسير في الشارع بأقصى ما يمكن من الخفة والحذر وهو يخطو فوق الأحجار والبلاط على أطراف أصابعه تقريبا لكي لا يبلى نعله بسرعة وأن يقلل ما أمكن من اعطاء ملابسه للغسالة، وحتى لا تبلى فعليه أن يخلعها كلما عاد إلى المنزل ويبقى فقط في الروب القطني العتيق جدا والذي رأف بحاله حتى الزمن نفسه. وللحقيقة ينبغي أن نقول أنه كان من الصعب عليه إلى حد ما في البداية أن يتعود على هذه القيود، ولكنه ألفها فيما بعد وسارت الأمور على ما يرام، بل انه تعود تماما على الجوع في المساء وفي المقابل فقد كان يتغذى معنويا، وهو يحمل في خاطره الفكرة الخالدة عن المعطف المقبل. ومنذ تلك اللحظة بدا وكأن وجوده نفسه أصبح أكثر اكتمالا، وكأنما تزوج ، كأنما أصبح يلازمه شخص ما، كأنما لم يعد وحيداً، بل وافقت شريكة حياة لطيفة على أن تمضي معه في درب الحياة، ولم تكن شريكة الحياة تلك سوى المعطف ذي الحشوة القطنية السميكة والبطانة المتينة التي لا تعرف البلى. وأصبح اكاكي اكاكيفتش أكثر حيوية، بل وأصبحت شخصيته أكثر صلابة كشخص حدد لنفسه هدفا وسعى إليه. واختفت من وجهه ومسلكه تلقائياً الشكوك والتردد أي كل الملامح المتذبذبة وغير المحددة. وكانت عيناه تتوقدان أحياناً، وكانت أكثر الخواطر جرأة وجسارة تومض في ذهنن: "فماذا لو ركّب فعلا ياقة من فراء السنسار!" وكاد التفكير في ذلك أن يجعله نهبا لشرود الذهن. فذات مرة أوشك أن يخطئ وهو ينسخ الأوراق حتى أنه صاح بصوت مسموع تقريبا: "أوه!" ورسم علامة الصليب. وكان كل شهر يزور بتروفتش مرة على الأقل لكي يتحدث عن المعطف: وأين يستحسن أن يشتري الجوخ ومن أي لون وبأي ثمن، وكان يعود من عنده مهموما بعض، إلا أنه كان يعود راضياً دائما وهو يفكر في أنه سيأتي أخيراًَ ذلك الزمن الذي سيشتري فيه كل ذلك ويصبح المعطف جاهزاً. بل لقد سارت الأمور بأسرع مما كان يتوقع. فخلافا لكل الأحلام قرر المدير لاكاكي اكاكيفتش لا أربعين أو خمسة وأربعين روبلا، بل ستين روبلا كاملة. وسواء أحس المدير أن اكاكي اكاكيفتش بحاجة إلى معطف أم أن ذلك حدث عفوا فقد أصبح لديه نتيجة لذلك عشرون روبلا زيادة. وعجل هذا الوضع بسير الأمور. فبعد شهرين أو ثلاثة من الجوع البسيط أصبح لدى اكاكي اكاكيفتش بالضبط حوالي ثمانين روبلا. وبدأ قلبه الذي كان هادئاً للغاية بصفة عامة، يدق. وفي نفس اليوم ذهب مع بتروفتش إلى المحلات. وابتاعا قماشا جيدا جدا. ولا عجب. فقد كانا يفكران في ذلك قبلها بنصف عام، ونادرا ما مر شهر دون أن يذهبا إلى المحلات للنظر في الأسعار. وفي المقابل فقد قال بتروفتش نفسه أنه ليس هناك جوخ أفضل منه. واختار للبطانة قماشا بفتة، ولكنه كان متينا وسميكا وحسب كلام بتروفتش أفضل من الحرير، بل وكان منظره أبهى وأكثر لمعانا. ولم يشتريا فراء السنسار لأنه كان بالفعل غاليا، وبدلا منه اختارا فراء قط أفضل لم يجدا غيره في المحل، فراء قط يمكن دائما أن تظنه فراء سنسار اذا نظرت إليه من بعيد. واستغرق بتروفتش اسبوعين في خياطة المعطف لأنه تطلب الكثير من التنجيد، ولولا ذلك لفرغ منه قبل ذلك. وأخذ بتروفتش اثني عشر روبلا أجرا، ولم يكن من الممكن اعطاؤه أقل من ذلك: فقد كانت الخياطة كلها بخيوط من الحرير وبخياطة دقيقة مزدوجة، ومر بتروفتش على كل الخياطة بأسنانه بعد ذلك مزيلا بها شتى النتوءات. وكان ذلك في.. من الصعب أن نقول في أي يوم كان ذلك بالضبط، ولكنه على الأرجح كان أكثر الأيام مهابة في حياة اكاكي اكاكيفتش، وذلك عندما جاءه بتروفتش أخيراً بالمعطف. جاء به في الصباح بالضبط قبيل الوقت الذي كان على اكاكي اكاكيفتش فيه أن يذهب إلى الادارة. وجاء هذا المعطف في وقت ليس هناك ما هو أكثر منه مناسبة: فقد بدأ بالفعل الصقيع الشديد، وبدا أنه ينذر بمزيد من البرد. وجاء بتروفتش بالمعطف كما ينبغي أن يأتي خياط جيد, فقد ظهر على وجهه تعبير أهمية لم يره اكاكي اكاكيفتش عليه من قبل قط. وبدا أنه يدرك الهوة التي تفصل بين الخياطين الذين يركبون البطانات فقط ويصلحون الملابس والخياطين الذين يخيطون الملابس الجديدة. وأخرج بتروفتش المعطف من المنديل الذي لفه به. وكان المنديل خارجا من أيدي الغسالة لتوه. وقد لفه بتروفتش بعد ذلك ووضعه في جيبه للاستعمال. وبعد أن أخرج المعطف نظر إليه بزهو شديد وأمسكه بكلتا يديه، ثم ألقى به بمهارة شديدة على كتفي اكاكي اكاكيفتش. ثم شده وسواه بيده من الخلف إلى أسفل. ثم مر بيده على المعطف، وهو مسدل على كتفي اكاكي اكاكيفتش. ولكن اكاكي اكاكيفتش كرجل متقدم في العمر أراد أن يجرب المعطف وقد ارتداه بأكمامه. فساعده بتروفتش على ارتدائه بأكمامه، فظهر أنه جيد بالأكمام أيضاً. وباختصار فقد اتضح أن المعطف كان على مقاسه بالضبط. ولم ينس بتروفتش بهذه المناسبة أن يقول أنه فقط لأنه يعيش بدون لافتة وفي شارع صغير وفوق ذلك يعرف اكاكي اكاكيفتش منذ فترة طويلة فقد تقاضى أجراً قليلا إلى هذا الحد. أما في شارع "نيفسكي" فكانوا سيأخذون منه خمسة وسبعين روبلا على الخياطة فقط. ولم يشأ اكاكي اكاكيفتش أن يجادل بتروفتش في ذلك، وعلاوة على ذلك فقد كان يخاف من تك المبالغ القوية التي كان يحلو لبتروفتش أن يوهم بها الزبائن. فنقده أجره وشكره وخرج على الفور في المعطف الجديد إلى الادارة. وخرج بتروفتش في أثره ووقف ففي الشارع ينظر طويلا إلى المعطف من بعيد. ثم انعطف عن عمد إلى حارة ملتوية لكي يختصر الطريق ويعود إلى الشارع ثانية وينظر مرة أخرى إلى المعطف ولكن من ناحية أخرى أي من الوجه مباشرة. بينما كان اكاكي اكاكيفتش يسير ومشاعر البهجة تغمره. كان يشعر كل لحظة بأن على كتفيه معطفا جديدا، بل وضحك عدة مرات من السرور الداخلي. وبالفعل فقد كانت هناك منفعتان: واحدة هي أنه دافئ والأخرى أنه حسن. ولم يلحظ الطريق ابدا ووجد نفسه في الادارة فجأة. وفي غرفة الحاجب خلع المعطف وتفحصه من جميع الجهات ووضعه في رعاية الحاجب الخاصة. ولا نعرف كيف علم جميع من في الادارة فجأة أن لدى اكاكي اكاكيفتش معطفا جديدا، وأن معطفه السابق لم يعد له وجود بعد. وفي نفس اللحظة هرول الجميع إلى غرفة الحاجب ليروا معطف اكاكي اكاكيفتش الجديد. وراحوا يهنئونه ويحيونه ، حتى أنه في البداية أخذ يبتسم فقط، ثم شعر بعد ذلك بالخجل، وعندما أخذ الجميع، وقد أحاطوا به، يقولون أنه لا بد من تدشين المعطف الجديد وأنه ينبغي عليه على الأقل أن يقيم لهم جميعا حفلا، ارتبك اكاكي اكاكيفتش تماما، ولم يعرف ماذا يفعل وبم يردّ وكيف يتملص. وبعد بضع دقائق، وقد احمرّ كله، راح يؤكد لهم بسلامة نية أن هذا المعطف ليس جديدا ابدا وإنما هكذا مجرد معطف قديم. وأخيرا قال أحد الموظفين، بل كان أحد مساعدي رئيس القلم، ربما لكي يظهر أنه ليس متكبرا ابدا، بل ويتعامل مع من هم أدنى منه، قال: "طيب، فليكن. أنا سأقيم لكم حفلا بدلا من اكاكي اكاكيفتش، وأدعوكم اليوم لتناول الشاي. واليوم بالمناسبة عيد ميلادي". وعلى الفور هنأ الموظفون مساعد رئيس القلم وقبلوا دعوته بكل سرور. وأراد اكاكي اكاكيفتش أن يعتذر، ولكن الجميع راحوا يقولون أن ذلك لا يليق وأنه شيء معيب ومخجل، فلم يستطع أبدا أن يرفض الدعوة. وعلى العموم فقد شعر فيما بعد بالسرور عندما تذكر أن ذلك سيتيح له فرصة السير مساء أيضا في المعطف الجديد. وكان هذا اليوم كله بالنسبة اكاكي اكاكيفتش كأنما أكبر وأبهى عيد. وعاد إلى البيت في أسعد حالة ونزع المعطف وعلقه بحرص على الجدار، وقد ملى عينيه مرة أخرى من الجوخ والبطانة، ثم أخرج معطفه القديم عمدا بقصد المقارنة، ذلك المعطف الذي تهرأ تماما. تطلع إليه، فضحك هو نفسه منه، فما أبعد الفرق بينهما! وظل بعد ذلك وطوال الغداء يضحك كلما خطرت له حالة معطفه السابق. وتناول الغداء بمرح، ولم ينسخ شيئاً بعد الغداء، لم يمسك بأية أوراق، بل تمرغ فراشه قليلا حتى هبط الظلام. ثم ارتدى المعطف دون تسويف وخرج إلى الشارع. وللأسف فإننا لا نستطيع أن نقول أين كان يسكن الموظف الذي دعاه، فقد بدأت الذاكرة تخوننا بشدة، فاختلط علينا كل شيء في بطرسبورغ. واندمجت كل البيوت والشوارع في الرأس. حتى أصبح من الصعوبة بمكان أن نستخرج منها شيئاً ما في صورة متسقة. وأيا كان الأمر إلا أن الشيء الصحيح على الأقل هو أن الموظف كان يسكن في أحسن مناطق بطرسبورغ، وبالتالي بعيدا جدا عن اكاكي اكاكيفتش. كان على اكاكي اكاكيفتش في البداية أن يمر عبر بعض الشوارع المقفرة ذات الإضاءة الهزيلة. ولكن بقدر اقترابه من شقة الموظف أصبحت الشوارع أكثر حيوية وحركة واضاءة. وبدأ المارة يلوحون أكثر، ولاحت السيدات الأنيقات، وظهرت على الرجال ياقات من فراء السمور، ولم تظهر الا نادرا الزخارف الشعبية الخشبية المليئة بالمسامير المذهبة، وعلى العكس من ذلك كثر الحوذيون المندفعون بسرعة بطواقيهم المخملية القرمزية، وبزحافاتهم المطلية باللاك اللامع وبالأغطية المصنوعة من جلود الدببة، وكانت العربات ذات مقاعد الحوذية المزينة تنهب الشارع وعجلاتها تصر على الثلج. وتطلع اكاكي اكاكيفتش إلى ذلك كله وكأنما يراه للمرة الأولى. إذ لم يخرج من داره مساء منذ عدة سنوات. وتوقف بفضول أمام واجهة متجر مضاءة ليتفرج على لوحة كانت تصور امرأة ما جميلة تخلع حذاءها كاشفة بذلك عن ساقها كلها، وكانت ساقا لا بأس بها أبدا. ومن خلفها أطل من باب غرفة أخرى رجل بسالفين ولحية جميلة تحت شفته. وهزّ اكاكي اكاكيفتش رأسه وضحك ضحكة قصيرة، ثم مضى في حال سبيله. فهل يا ترى ضحك لأنه رأى شيئاً غير معروف له، ولكنه مع ذلك يترك في نفس كل من يراه حدسا ما، أم أنه ضحك لأنه فكر مثل كثيرين من الموظفين بهذه الصورة: "آه من هؤلاء الفرنسيين! ماذا بوسعك أن تقول.. فهم اذا أرادوا شيئا ما يعني فهو بالضبط يعني.." وربما لم يفكر حتى في هذا، فمن الصعب أن تقحم نفسك في دخيلة انسان ما لتعرف فيم يفكر. وأخيرا وصل إلى البيت الذي كان يقطنه مساعد رئيس القلم.
كان مساعد رئيس القلم يحيا في بحبوحة من العيش: فعلى سلم المدخل كان مصباح مضاء، وكانت شقته في الطابق الثاني. وعندما دخل اكاكي اكاكيفتش إلى الردهة رأى على الأرض صفوفا من الخفوف. وبينها، في وسط الغرفة كان هناك سماور يغلي وينفث سحبا من البخار. وعلى الجدران علقت معاطف وأردية. كان من بينها معاطف بياقات من فراء السمور أو بطيات صدور من المخمل. وتناهى من وراء الجدار صخب ولغط أصبحا فجأة واضحين ورنانين عندما فتح الباب وخرج منه خادم يحمل صينية غاصة بالأكواب الفارغة ودورق حليب وسلة خبز مجفف. وكان واضحا أن الموظفين مجتمعون مدة طويلة وقد شربوا أول كوب شاي. وبعد أن علق اكاكي اكاكيفتش معطفه بنفسه داخل الغرفة، وفي نفس الوقت لاحت أمام ناظريه الشموع والموظفون والغلايين وموائد لعب الورق، وأصم سمعه حديث متصاعد من جميع الجهات وجلبة مقاعد يحركونها. فتوقف في وسط الغرفة مرتبكا تماما، وهو يبحث ويحاول أن يجد لنفسه شيئاً يفعله. ولكنهم كانوا قد لاحظوا وجوده، فاستقبلوه بالصياح ومضوا على الفور إلى الردهة وتفرجوا على معطفه مرة اخرى. ورغم أن اكاكي اكاكيفتش كان محرجا بعض الشيء، ولكنه، اذ كان شخصا سليم النية، لم يستطع إلا أن يفرح، وهو يرى أن الجميع يمتدحون المعطف. وبعد ذلك بالطبع تركوه ومعطفه واتجهوا كما هو متبع إلى موائد لعب الورق. وكان كل ذلك: الصخب واللغط وهذا الحشد من الناس، كان كل ذلك عجيباً بالنسبة لاكاكي اكاكيفتش. لم يكن يدري كيف يتصرف ولا ماذا يفعل بيديه وساقيه وجسمه كله. وأخيرا جلس إلى اللاعبين وتطلع إلى أوراق اللعب وحدق في وجه هذا وذلك وبعد فترة من الوقت بدأ يتثاءب ويشعر بالملل خاصة وأنه قد حان منذ زمن بعيد الموعد الذي كان عادة يأوي فيه إلى الفراش. وأراد أن يستأذن من رب الدار في الانصراف، ولكنهم لم يسمحوا له قائلين أنه لا بد من تناول كأس شمبانيا بمناسبة المعطف الجديد. وبعد ساعة قدموا العشاء المكون من سلطة روسية ولحم عجول بارد وكبد مهروس وقطع جاتوه وشمبانيا. وأجبروا اكاكي اكاكيفتش على شرب كأسين من الشمبانيا أحس بعدهما أن الجو في الغرفة أصبح أكثر مرحا، الا أنه لم يستطع أبدا أن ينسى أن الساعة بلغت الثانية عشرة وأن وقت عودته إلى البيت قد حان منذ زمن بعيد. ولكيلا يحاول صاحب البيت أن يستبقيه بطريقة ما خرج اكاكي اكاكيفتش من الغرفة بهدوء وبحث عن معطفه في الردهة، فوجده للأسف ملقى على الأرض، فتناوله ونفضه ونزع منه كل ما علق به من زغب ووضعه على كتفيه ونزل على السلم إلى الشارع. كان الشارع لا يزال مضيئاً. وكانت بعض المتاجر الصغيرة، هذه النوادي الدائمة للبوابين وغيرهم من الناس، لا تزال مفتوحة، أما البعض الآخر المغلق فكان يصدر عنه رغم ذلك شريط ضوء طويل عبر شق الباب كله، الأمر الذي كان يدل على أنها لم تخل بعد من تجمع بشري، اذ يبدو أن البوابين والسيّاس أو الخدم يوشكون على الفراغ من أحاديثهم ورواياتهم موقعين أسيادهم في حيرة كاملة بخصوص أماكن تواجدهم. سار اكاكي اكاكيفتش مرح النفس حتى انه هم بالركض فجأة لسبب مجهول وراء سيدة ما مرقت بجواره كالبرق، وكان كل طرف من أطراف جسدها مفعما بحركة غير عادية. الا أنه مع ذلك توقف على الفور وسار كما في السابق بهدوء شديد ودهش هو نفسه من ركضه الذي لا يعرف من أين حل عليه. وسرعان ما امتدت أمامه تلك الشوارع الخاوية التي لا تتسم بمرح خاص حتى في النهار، فما بالك بالمساء. لقد أصبحت الآن أكثر خواء وعزلة. ومضت المصابيح أضعف، اذ يبدو أن الزيت فيها أصبح قليلا، وبدأت تلوح المنازل الخشبية والاسيجة. ولم يكن هناك أحد على الاطلاق . الثلج فقط هو الذي كان يلمع في الشوارع، ولاحت الأشباح السوداء الحزينة للأكواخ المنخفضة النائمة بنوافذها الموصدة الشيش. واقترب من ذلك المكان الذي كان الشارع يتقاطع فيه مع ميدان لا نهاية له لا تكاد المنازل تبين في طرفه الآخر. وكان هذا الميدان يبدو كصحراء رهيبة.
ومن بعيد، من مكان لا يعلمه إلا الله، ومض ضوء في كشك حراسة بدا وكأنه قائم في آخر الدنيا. وهنا انخفض مرح اكاكي اكاكيفتش إلى حد كبير. ودخل الميدان باحساس لاارادي بالخوف كأنما كان قلبه يحدسه بشر. ونظر خلفه وتلفت حواليه. فبدا كأنما كان قلبه يحدسه بشر. ونظر خلفه وتلفت حواليه. فبدا ما حوله وكأنه بحر. فقال في نفسه: "كلا، من الأفضل ألا أنظر"، - وسار مغمض العينين، وعندما فتحهما ليعرف هل أوشك الميدان على الانتهاء أم لا، رأى أمامه فجأة، تحت أنفه تقريبا، شخصين ما بشوارب، ولكنه لم يستطع حتى أن يميز أي شخصين هما. وغامت عيناه وخفق قلبه بعنف. "ولكن هذا المعطف معطفي!" – قال أحدهما بصوت راعد وأمسك بياقة معطفه. واراد اكاكي اكاكيفتش أن يصرخ: "النجدة!"، ولكن الآخر دس أمام فمه مباشرة قبضة بحجم رأس موظف ودمدم: "حاول أن تصرخ". ولم يشعر اكاكي اكاكيفتش إلا وهما ينزعان عنه المعطف، ثم ركلاه ركلة قوية، فسقط على وجهه فوق الثلج، ولم يعد يشعر بشيء أكثر من ذلك. وبعد بضع دقائق عاد إلى وعيه، فنهض على قدميه. ولكن لم يكن هناك أحد. وأحس أن الجو بارد وأن المعطف ليس موجودا، فأخذ يصرخ، ولكن صوته كما بدا لم يكن ينوي أن يبلغ آخر الميدان. فانطلق اكاكي اكاكيفتش يركض في يأس، وهو لا يكف عن الصراخ، ولكن صوته كما بدا لم يكن ينوي أن يبلغ آخر الميدان. فانطلق اكاكي اكاكيفتش يركض في يأس، وهو لا يكف عن الصراخ، متجها، عبر الميدان إلى كشك الحراسة مباشرة حيث كان الدركي يقف متكئا على البلطة. وهو يتطلع فيما يبدو بفضول ويريد أن يعرف أي شيطان دفع هذا الشخص إلى الركض نحوه صارخا من بعيد. وعندما بلغه اكاكي اكاكيفتش راح يصرخ بصوت مختنق بأنه نائم ولا يحرس شيئاً ولا يرى كيف ينهبون الناس. فأجاب الدركي بأنه لم ير شيئا وأنه رأى كيف استوقفه شخصان وسط الميدان، ولكنه ظن أنهما من معارفه. وأنه بدلا من السباب عبثا من الأفضل أن يذهب غدا إلى المفتش، وسيعثر المفتش على من سرق المعطف. وعاد اكاكي اكاكيفتش إلى المنزل في اضطراب تام، فقد تبعثر شعره الذي تبقى لديه بكمية صغيرة عند صدغيه ومؤخرة رأسه، وكان جنبه وصدره وسرواله ملوثة بالثلج كلها. وعندما سمعت العجوز، صاحبة شقته دقا رهيبا على الباب نهضت من فراشها على عجل وركضت بفردة شبشب واحدة في قدمها لتفتح الباب وقد شدت بإحدى يديها القميص على صدرها من التواضع. ولكن عندما فتحت الباب تراجعت إلى الخلف إذ رأت اكاكي اكاكيفتش في هذه الهيئة. وعندما قص عليها ما حدث له أشاحت بيديها وأشارت عليه بأن يذهب مباشرة إلى مأمور القسم، لن شرطي الحي سيخدعه، فسيعده بالبحث، ثم يماطل بعد ذلك. أفضل شيء أن يذهب إلى المأمور مباشرة، بل انها تعرف المأمور لأن الفنلندية التي كانت تعمل عندها طاهية، أصبحت تعمل الآن عند المأمور مربية، كما أنها كثيرا ما تراه شخصيا عندما يمر بجوار منزلهم، كما أنه يتردد على الكنيسة كل أحد ليصلي وفي الوقت نفسه يتطلع إلى الجميع بمرح، ولذلك فهو على ما يبدو رجل طيب. وبعد أن سمع اكاكي اكاكيفتش هذا القرار جر ساقيه حزينا إلى غرفته. أما كيف قضى ليلته فلنترك الحكم على ذلك لمن يستطيع أن يتخيل ولو إلى حد ما وضع شخص آخر. وفي الصباح الباكر مضى إلى المأمور. فقيل له أنه نائم. وعاد في العاشرة، فقيل له ثانية أنه نائم. فعاد في الحادية عشرة ، فقيل له أن المأمور غادر البيت. فعاد ساعة الغداء، الا أن الكتبة في المدخل لم يريدوا أن يسمحوا له بالدخول وأصروا على أن يعرفوا الغرض من زيارته وماذا يريد وماذا حدث. لكن اكاكي اكاكيفتش أراد أخيرا أن يبدي صلابة ولو مرة في حياته، فقال بلهجة قاطعة أنه يريد مقابلة المأمور نفسه وأنهم لا يملكون الحق أن يمنعوه من مقابلته وأنه جاء من الادارة في عمل رسمي وأنه سوف يشكوهم وعندئذ سيرون. ولم يستطع الكتبة أن يقولوا شيئاً أمام ذلك. فذهب أحدهم لاستدعاء المأمور. وكان موقف المأمور من روايته عن السرقة غريبا للغاية. فبدلا من أن يوجه اهتمامه إلى النقطة الأساسية في الموضوع راح يسأل اكاكي اكاكيفتش لماذا عاد في هذه الساعة المتأخرة وألم يعرج في الطريق على أحد المنازل المشبوهة حتى أن اكاكي اكاكيفتش أحرج تماما وخرج من عنده، وهو لا يعرف هل ستسير قضية معطفه كما ينبغي أم لا. لقد قضى هذا النهار كله غائبا عن العمل (المرة الوحيدة في حياته). وفي اليوم التالي جاء شاحبا وفي قبوطه القديم الذي أصبح أكثر بؤسا. وهزت قصة سرقة المعطف قلوب الكثيرين بالرغم من أنه كان هناك بعض الموظفين الذين لم يتورعوا حتى في هذه المناسبة عن السخرية باكاكي اكاكيفتش. وقرروا على الفور أن يجمعوا له تبرعا، إلا انهم جمعوا مبلغا تافها لأن الموظفين كانوا قد أنفقوا الكثير في الاكتتاب لرسم صورة للمدير وفي شراء كتاب ما اقترحه عليهم رئيس القسم الذي كان صديقا للمؤلف. وهكذا جمعوا مبلغا تافها للغاية. وقرر أحدهم بوازع من الشفقة أن يساعد اكاكي اكاكيفتش على الأقل بنصيحة طيبة، فأشار عليه بألا يذهب إلى شرطي الحي، إذ بالرغم من أنه قد يحدث أن يتمكن الشرطي رغبة منه في كسب تقدير الرؤساء من العثور على المعطف بطريقة ما، لكن المعطف مع ذلك سيبقى في قسم البوليس ما لم يقدم اكاكي اكاكيفتش أدلة قانونية على ملكيته له. أفضل شيء أن يقصد احدى الشخصيات الهامة، فهذه الشخصية الهامة تستطيع بالاتصال ومخاطبة من ينبغي أن تدفع القضية بنجاح أكبر. ولم يكن أمام اكاكي اكاكيفتش من مفر، إنما ينبغي أن نعلم أن إحدى الشخصيات الهامة أصبح منذ فترة قريبة شخصية هامة، أما قبل ذلك فكان شخصية غير هامة. على أية حال فإن منصبه لا يعتبر حتى الآن هاما بالمقارنة مع المناصب الأخرى الأكثر أهمية. غير أنك ستجد دائما دائرة من الناس الذين يعتبرون مهما ما يبدو في عيون الآخرين غير مهم. على أية حال حاول هذه الشخصية الهامة أن يزيد من أهميته بوسائل أخرى كثيرة، وبالتحديد فقد عمل على أن يستقبله الموظفون الصغار على السلم ساعة حضوره إلى وظيفته وألا يجرؤ أحد على الدخول إليه مباشرة، بل يمضي كل شيء وفق نظام صارم: أن يبلغ المساعد الاعتباري سكرتير المحافظ، ويبلغ سكرتير المحافظ المستشار الاعتباري أو شخصا آخر، وبهذه الطريقة يبلغ الأمر إليه. هكذا تنتشر عدوى التقليد إلى كل شيء في روسيا المقدسة، ويحاول كل شخص أن يقلد رئيسه ويتشبه به. بل انه يقال أن مستشارا اعتباريا ما عندما عينوه رئيسا لاحدى الادارات الصغيرة المستقلة، اقتطع لنفسه على الفور غرفة خاصة وسماها "غرفة الحضور" ووضع على بابها حجابا ما بياقات حمراء، كانوا يمسكون بمقبض الباب ويفتحونه أمام كل وافد على الرغم من أن "غرفة الحضور" كانت لا تتسع إلا بالكاد لطاولة مكتب عادية. لقد كانت أساليب وعادات الشخصية الهامة رصينة ومهيبة ولكن دون تعقيد. كانت الصرامة هي القاعدة الأساسية لنظامه. وكان يقول عادة: "الصرامة والصرامة، ثم الصرامة" وعند الكلمة الأخيرة يحدق في العادة بأهمية في وجه من يخاطبه. رغم أن ذلك على أية حال لم يكن له أدنى مبرر لأن الموظفين العشرة الذين كانوا يشكلون كل الجهاز الحكومي للادارة، كانوا حتى بدون ذلك مرعوبين بدرجة كافية. فما أن يروه من بعيد حتى يتركوا عنهم أعمالهم ويقفوا في انتباه منتظرين حتى يمر الرئيس عبر الغرفة. وكان حديثه العادي مع مرؤوسيه يتسم بالصرامة ويتألف تقريبا من ثلاث جمل: "كيف تجرؤ؟ هل تعلم مع من تتحدث؟ هل تفهم أمام من تقف؟" على أية حال كان في قرارته رجلا طيبا، لطيفا مع رفاقه، خدوما، الا أن رتبة الجنرال أفقدته توازنه. فما أن حصل على رتبة الجنرال حتى ارتبك وضل طريقه ولم يعرف ابدا كيف يتصرف. فاذا حدث أن اجتمع مع أناس من مستواه كان يبدو انسانا وكما ينبغي انسانا مستقيما جدا، بل وحتى انسانا غير غبي في كثير من النواحي. ولكن ما أن يتواجد في مجتمع فيه أشخاص أدنى منه ولو برتبة واحدة حتى يصبح شخصا لا أمل منه: كان يركن إلى الصمت، ويثير وضعه الشفقة، خاصة وأنه هو نفسه كان يشعر بأنه كان من الممكن أن يقضي وقته بصورة أفضل بكثير. وكانت تتبدى في عينيه أحيانا رغبة قوية المشاركة في أحد الأحاديث أو الانضمام إلى احدى الحلقات الشيقة، فتصده عن ذلك فكرة: "لن يكون ذلك تنازلا كبيرا من جانبه؟ ألن يكون في ذلك رفع للكلفة، ألن يكون في ذلك اهدارا لأهميته؟" ونتيجة لهذه الأفكار يظل دائما في نفس حالة الصمت التي لا تتغير، فلا يتفوه الا نادرا بأصوات أحادية المقاطع حتى استحق لقب أضجر انسان. إلى هذه الشخصية الهامة توجه صاحبنا اكاكي اكاكيفتش ووصل في وقت غير موات أبدا وغير مناسب أبدا له وان كان على أية حال مناسبا للشخصية الهامة.




تابع....الجزء الثالث والاخير

0 التعليقات:

إرسال تعليق

حلو؟؟ وحش؟؟ طب ساكت ليه ما تقول....