الثلاثاء، 23 يونيو 2015

قصة الحضارة 28- عصر الايمان ٩ -اوروبا ٣:المعارف و العلوم


اسم الكتاب : عصر الايمان ٩ -اوروبا ٣:المعارف و العلوم - المجلد الثامن و العشرون من قصة الحضارة
تأليف: ول ديورانت
ترجمة: محمد بدران
عدد الصفحات: ٣٨٤ صفحة
اصدارات دار نوبليس
التقييم: 5/5
عندما تبدأ فى السطور الاولى من مجلدات عصر الايمان لا تدرك السرعة التى ستصل بها للسطور الاخيرة من المجلد التاسع و الاخير منها ...و فيه نشتم نسمات ما سيسمى لاحقا عصر النهضة و فيه نرى الحياة الادبية و العلمية فى نهايات العصور الوسطى الطويلة من قسطنطين الى دانتى
و اولى علامات المخاض الصعب هو اشتقاق اللغات الاوروبية عن اصلها اللاتينى الصلب التى حافظت عليه الكنيسة و ادابها طوال عشرة قرون بعد احتضار حضارة روما العريقة ... و الغريب ان "موت الادب" كان هو سبب هذا الانفصال العجائبى , فبانقراض الاداب و الفنون و انفصال علوم الكنيسة الرسمية الدينية المتصلبة عن الفن الشعبى الذى صار البديل جعل الانسان العادى القروى يملك سلطات واسعة فى استخدام لغته البسيطة التى صارت هى بذاتها بعد ذلك لغة راقية
وبيننا كانت اللغة اللاتينية تنقسم وتتولد منها اللغات الرومنسية، كانت اللغة الألمانية القديمة تتفتت هي الأخرى إلى اللغة الألمانية الوسطى، واللغة الفريزية، والهولندية، والفلمنكية، والإنجليزية، والدنمرقية، والسويدية، والنرويجية، والأيسلندية...وكونت إيطاليا لغتها القومية ببطء أكثر مما تكونت به لغتنا أسبانيا وإيطاليا. ذلك أن اللاتينية كانت لغتها الوطنية، وأن رجال الدين، وهم الذين كانوا يتكلمون اللغة اللاتينية، كانوا كثيري العدد في إيطاليا، وأن استمرار ثقافتها ومدارسها منع اللغة أن تتغير بنفس اليسر والتحرر اللذين تغيرت بهما في بلاد ذات تقاليد منقطعة غير متصلة.
************
و عملت حركة الترجمة النشطة الى رجوع الفلسفة اليونانية مرتدية حلتها العربية الى روما و اوروبا التى تناسوا علوم العقل فى زحام الكر و الفر و الحرب الصليبية منها و الاهلية
فانشئت المدارس المدنية بعد كثير من المقاومة الكنسية فاحدث هذا الحدث العارض الثورة الفكرية مقترن بحركة الترجمة العربية .. ليهز قواعد الكنيسة الراسخة بافكار التحرر و التشكك و الفكر المنطلق الذى لا يهتم بالارهاب او الارغام كثيرا , خاصة بنظام تلك المدارس الذى كان فيه المدرس مجرد موظف لدى رابطة الطلاب المسيطرين ماديا و فكريا
لم تكن سن طالب العصور الوسطى محددة، فقد يكون في أي سن، وقد يكون قساً او راهباً ممتازاً، أو رئيس دير، أو تاجراً، وقد يكون متزوجاً أو غلاماً في الثالثة عشر من عمره، يثقله عبء الكرامة المفاجئة التي ألقيت عليه في هذه السن. وكان هذا الطالب يذهب إلى بولونيا، أو أورليان، أو منبلييه ليصبح محامياً، أو طبيباً، أو يذهب إلى غير هذه من الجامعات في بعض الأحوال لكي يأهل نفسه لخدمة الحكومة، أو يجد لنفسه في العادة مجالاً في الكنيسة. ولم يكن يؤدي امتحاناً للدخول في الجامعة؛ بل كل ما كان يطلب إليه أن يعرف اللغة اللاتينية، وان يكون قادراً على أداء أجراً زهيد لكل مدرس يدرس منهجه عليه.
_______________________
و وسط كل تلك الحركة الفكرية المستجدة بعد قرون طويلة من طغيان السلاح على الدماغ و الذراع على الذهن..كان ظهور أبلار حتميا
أبلار فيلسوف عصر حرم من نور الفلسفة,مدرس له تأثيره فى الجامعات الوليدة, راهب و قس مختلف عن ابناء جيله,و محب قاسى الكثير بسبب افكاره و سوء المنقلب و مثال حى لقصص الحب المجهضة فى عصر الايمان
و الجدال بتفاصيله تلك اذا نظر لها مواطن القرن الحادى و العشرين نجده سفسطئى او غير ذى بال , لكنه حمل اهمية قصوى و شارف على تغيير وجه قارة تخطبت كثيرا و هى مساءلة الجزء و الكل و دور الكلية و الجزئية ..و هنا نستعين بكلمات ديورانت كاقتباس:
"الوجود الموضوعي (للكليات). وكان (الكلي) في الفلسفة اليونانية وفلسفة العصور الوسطى هو الفكرة العامة التي" تدل على صنف من الأشياء (كالكتاب، والحجر، والكوكب، والرجل، والنوع الإنساني، والشعب الفرنسي، والكنيسة الكاثوليكية)؛ أو الأعمال (كالقسوة، والعدالة)؛ أو الصفات (كالجمال، والصدق).
وكان إفلاطون، وهو العليم بسرعة زوال الكائنات والأشياء الفردية، قد قال بأن الكلي اكثر بقاء، وأنه لذلك اكثر حقيقة، من أي فرد من الصنف الذي يصفه: فالجمال اكثر حقيقة من فريني، والعدالة اكثر حقيقة من أرستيديز والرجل اكثر حقيقة من سقراط؛ وهذا هو الذي كانت العصور الوسطى تعبر عنه (بالواقعية).
وخالف أرسطو هذا الرأي وقال أن (الكلي) ليس إلا فكرة يكونها العقل لتمثل صنفاً من الأشياء المتماثلة؛ فهو يرى أن الصنف نفسه لا يرى إلا فيصوره أعضائه التي يتركب هو منها. والناس في وقتنا هذا يتجادلون: هل يوجد (عقل جماعة) منفصلاً عن رغبات الأفراد الذين تتكون منهم هذه الجماعة وأفكارهم ومشاعرهم؟ فأما هيوم فقد قال أن (العقل) الفردي نفسه ليس إلا اسماً مجرداً من سلسلة الأحاسيس والأفكار، والإرادات التي في كائن حي ولمجموعها.
ولم يكن اليونان يهتمون اهتماما كبيراً بهذه المسألة، لكن العصور الوسطى كانت تراها مأساة حيوية. فقد كانت الكنيسة تزعم أنها موجود روحي بالإضافة الى مجموع الأفراد المنضمين إليها؛ وكانت تشعر بأن (للكل) صفات وقوى غير صفات أجزاءه وقواها؛ ولم يكن في مقدورها أن تعترف بأنها فكرة مجردة، وأن الأفكار والعلاقات التي لا نهاية لها والتي يوحي بها لفظ (الكنيسة) ليست إلا أفكاراً ومشاعر في أعضاءها المكونين لها، بل أنها هي (عروس المسيح) الحية. وشر من هذا قولها: إذا كان الأشخاص، والأشياء، والأعمال، والأفكار المفردة، هي وحدها الموجودة فماذا يكون مصير الثالوث؟ هل تكون وحدة الأقاليم الثلاثة فكرة مجردة لا اكثر، أو هل هي ثلاثة آلهة منفصلة عن بعضها البعض؟ أن علينا أن نضع أنفسنا في الجو اللاهوتي المحيط بروسلان إذ شئنا أن نفهم ما حل به."
فالامر الذى بدأ كجملة منسية فى جمل الفلسفة صار امر لاهوتيا بامتياز و الكنيسة التى كانت تمتلك حساسية مفرطة تجاه الحديث اللاهوتى عموما و عن الثالوث خاصة قادت حرب ضروس ضد افكار اليونان القديمة , و كان ابلار فى المعسكر المعادى هذا لكن حديث الممتع و مكانته كمدرس يجذب الرواد لحديثه و سهولة منطقه و ربما غروره و زهوه بنفسه و ثقته اللامتناهية بها ساعداه فى تلك المراحل الاولى و قدمت الكنيسة له نوع من الرشوى المقنعة بتقديم مناصب كهنوتية مقابل الصمت لكن مع شخصية فذة كابلار كان الامر محسوم
و ربما انتصر فى جداله لو لم تظهر على الساحة لتقلب الموازين كلها "هلواز" ابنه اخ قس الكنيسة تأسر قلب ابلار بعفافها و جمالها ليقع بين الطرفين المتناقضين قصة حب تعيسة تنتهى بحمل هلواز ثم زوجها منه سرا فاعلان السر الامر الذى سيؤدى لانتقام من اسرته يقطعون فيه اطراف ابلار الجنسية و تدخل هلواز كراهبة فى الدير
و نحب ان نصدق انه ظل يحبها حتى مماته ,و نحب ان نصدق ان الرسائل المتبادلة فيما بينهم حقيقية بنصها , و نكره ان نصدق ان الدين قد مزقهما و انه لولا وجودهم فى عصر الايمان بما يحمله الدين من سلطان لعاشوا حياة اقل بؤسا
و رحلة ابلار الفكرية بين الكنهوت و الرهبنة تتحطم على صخور الحب ...و قد تموت فلسفه ابلار لكن قصة حبه و رسائله المتبادلة مع حبه المنسى لا تنسى و نختم حديثنا بخطاب منسوب لهلواز بعد الرهبنة لحبيبها الذى ذاق طعم الحب مرة واحدة فحطمه:
أنك لتعرف يا أعز الناس علي - وأن الناس كلهم ليعرفون- ماذا خسرت بفقدك... لقد بدلت ثيابي وقلبي طوعاً لأمرك، كي أظهر لك أنك مالك جسمي وعقلي... ولم أكن أتطلع إلى عهد الزواج، أو إلى مهر تمهرني به... وإذا كان أسم الزوجة يبدو أكثر قداسة وأقوى رابطة، فأن أحب إلي، أسم الصديقة منه وأعذب على الدوام؛ أو، إذا لك يكن في هذا ما تستحي منه، أسم العشيقة أو العاهرة... وأني لأشهد لله لو أن أغسطس الذي حكم العالم كله رأى أني خليفة بأن يكون لي شرف الزواج به، وأن يملكني العالم بأسره أحكمه حكماً يدوم أبد لدهر، لكان قولهم أني مومسك أحب إلى من قولهم أني إمبراطورتها
********************
و يكتب ديورانت فصل طويل مفصل عن فلسفة توماس الأكوينى التى حاول فيها التوفيق بين الفلسفة القديمة التى عادت للساحة و بين دين الكاثوليكية الذى بدأ فى فقدان السيطرة .. فكرهته الفلاسفة و كرهه اهل الدين , و حاول صد تأثيرات ابن ميمون و ابن رشد و ادخال ارسطو فى معية الكنيسة دون اضافته العربية , و ربما تحقق له ذلك لكن بعد وفاته بقرون
و فصل عن العلوم فى العصور الوسطى التى بلغت اقصى قدر فى التاريخ من اختلاط الدجل بالعلوم و الدين بالطب و التعاويذ السحرية فى كل شئ و الاكثر اثارة للانتباه ان الامر قد تجاوز افكار العامة لتصل الى كتب الاطباء و العلوم ذاتها
وكان لابد للعلوم والفلسفة في العصور الوسطى أن ينمو غرسهما في جو من الأساطير، والخرافات، والمعجزات، والفأل، والطيرة، والعفاريت، والهولات، والسحر، والتنجيم، والتنبؤ بالغيب، وهي العقائد التي لا تنتشر إلا في عصور الفوضى والخوف
و يحاول ديورانت ان يرينا الاستثناءات فى القاعدة والا نتصور اوروبا كمستنقع دائم فى ذلك العصر المظلم فيرينا بعض التقدم فى فنون الطب و الجراحات و الفلك و هى العلوم التى طالما ارتبطت بالانسان و حياته المباشرة و اجبرته على الاهتمام بها
لينتهى عصر الايمان بدانتى و ملهاته المقدسة الممتعة التى تجبر القارئ النابه على ان يتذوقها مرة تلو الاخرى ...و به يضع دانتى ذلك الخط الوهمى الذى يفضل العصور عن بعضها , ولا يمكنا افتراض ان عام 1300 به عادات العصور الوسطى و افكارها و ان عام 1301 يختلف كثيرا فى ظل عصر النهضة
********************
و الان بعد تسعة مجلدات كاملة تروى قصة 10 قرون و بعد ان توفر لنا ما لم يتوفر لكثيرين من قراءة تاريخ شؤون سياسة و اداب و دين القرون الوسطى كاملة نسعد بتلك اللحظة الممتعة من تذكر القرون العشرة و نرى تراث هذا العصر الممتد
فنرى قليل من نتائج العلم الا من انجازات العرب فى بغداد , مصر ,و الاندلس...لكننا نرى دانتى لا يقل عن فرجيل و نرى اداب العرب و الشعر و قصص ارثر و غراميات الفروسية ,

و نرى كثير من نتائج الدين فى عصر استحق لقب عصر الايمان , و نرى دين يهودى كتب تلموده فحافظ على تماسكه و جموده, و نرى المسيحية تدخل قرنها الثالث على استحياء وراء قوة قسطنطين و تخرج فى قرنها الثالث عشر قوية متسلطة تركع ملوك اوروبا امامها و تذل فيريدريك الثانى رغم انتصاراته الصليبية , و نرى اسلام يبزغ فى قرنه السادس ليبلغ اقصى قوته و يبدأ انحساره
ونحن في انتقالنا من عصر الإيمان إلى عصر النهضة إنما نتقدم من الطفولة المزعزعة غير الواثقة بنفسها إلى الشباب البهيج للثقافة التي قرنت ما كان عند الرومان واليونان الأقدمين من ظرف ورقة إلى ما كان عند البرابرة من قوة؛ وهي ثقافة نقلت إلينا تراثاً متجدد الشباب موفور الغنى لحضارة من حقها علينا أن نعمل على الدوام لزيادتها وألاّ نتركها تموت.

شكرا ديورانت و محمد بدران لكتابة و ترجمة ذلك المجلد الضخم و ما قبله ...و نشكر كل من اتاح لنا وقتها لنتطلع عليه و نكتب عنه بالاهتمام و الحب ...و ندعو الله ان نكتب مقال اخر عندما ننتهى من مجلدات عصر النهضة
مايو 21 ... 2015

0 التعليقات:

إرسال تعليق

حلو؟؟ وحش؟؟ طب ساكت ليه ما تقول....