اسم الكتاب:النهضة 1- عصر النهضة -المجلد التاسع و العشرون من قصة الحضارة
تأليف: ول ديورانت
ترجمة: محمد بدران
عدد الصفحات: 339 صفحة
اصدارات دار نوبليس
التقييم: 5/5
نعود الى ايطاليا مرة اخرى مركز للاحداث بعد غياب دام تسعة مجلدات -و قارئ قصة الحضارة الذى اتخذها عادة يقيس التاريخ بالمجلدات و الصفحات لا السنوات و القرون- لنجد ديورانت ينير لنا الضوء عن ايطاليا تنتفض بعد عقود طويلة لتأخذ الريادة و تضئ العالم مرة اخرى بعد ان قادته قديما.
ربما يجب ان ان نعد ثورة "ريندسو" فى روما بداية لا بأس بها لذلك العصر حين نزع "ابن صاحب الحان و الغسالة" الملك من اشراف روما و النبلاء "المتنازعين الناهبين" لتثير خيالات روما القديمة النفوس و يتذكر الجميع الاخوين جراكس و شيشرون و اعادة الجمهورية المجيدة خاصه مع اتفاق البابا و بعثه مرسل منه كشريك فى الحكم ...و يصدم الجميع من نجاح ارادة "ريندسو" و اعادة الامن المفقود و تجفيف المستقعنات و عودة العدل بعد غياب الى محاكم روما و وشك حلم لم الشمل القديم على التنفيذ.
و محب قراءة التاريخ يدرك نهاية تلك الثورة و ان لم يقرأ عنها ولا عن عصرها , ذلك ان التاريخ يعلم دروسه المتتالية لمن اراد و هم ليسوا بالكثرة على اى حال, فسكر "ريندسو" بنشوه انتصاره على الاشراف فامتطى صهوة جواد ابيض و يتقدمه الف حارس مسلح و يرتدى الثياب الحريرية البيض باهداب الذهب فى موكب تحت رايات الملكية و يهمل ممثل البابا , فيخير بين الخلع و بين القبول اقتصار حكم روما الدنيوية بمعنى التخلى عن حكم باقى ايطاليا لم الشمل من جانب و عن اخضاع الكنيسة للحكم الدنيوى من جانب اخر ...و عموما لم تمر فترة طويلة حتى صدر مرسوم بابوى يوصفه بالالحاد و الاجرام
حتى هنا تعد قصة تاريخية "كلاسيكية" للغاية غير ان تاريخ روما قلما يقدم لنا قصص عادية فكانت التكملة العجيبة, بعد هرب ريندسو الى براج و من ثم عودته للمحاكمة كنسيا شعر الرومان بالذل حتى ان بترارك فى خطبة شهيرة له يقول:
"ان زعيمكم السابق أسير الآن في أيدي الأجانب، وكأنه-ويا للهول حقاً!- لص من لصوص الليل أو خائن لبلاده، يعرض قضيته وهو مصفد في الأغلال، تأبى أعلى محكمة أرضية أن تمكنه من الدفاع المشروع عن نفسه... إن روما بلا ريب لا تستأهل هذه المعاملة. لقد كان أهلها من قبل غير خاضعين لقانون أجنبي... أما الآن فيساء إليهم بلا تمييز بينهم. ويلقون هذه المعاملة وهم براء من إثم الجريمة بل وهم جديرون بالثناء العظيم الذي يستحقه أهل الفضيلة ... وليست التهمة الموجهة إليه هي خيانة الحرية، بل هي الدفاع عنها، وليس ذنبه أنه سلم الكبتول بل ذنبه أنه حماه. وإن أعظم التهم الموجهة إليه، والتي يجب أن يكفر عنها فوق المشنقة هي أنه قد جرؤ على التوكيد بأن الإمبراطورية الرومانية لا تزال قائمة في روما، وأنها لا تزال مسيطرة على الشعب الروماني. ألا تباً لهذا الزمان! وتباً لتلك الغيرة الشنيعة، وذلك الحقد المنقطع النظير! أين أنت أيها المسيح! يا أعدل القضاة ويا أحكم الحاكمين؟ أين عيناك اللتان تعودت أن تبدد بهما سحب شقاء البشرية؟... لم لا تقضى ببرقك و صواعقك على هذه المحاكمة الدنسة؟"
و ربما نجحت الضغوط فاصدر الحكم بالسجن بدلا من الاعدام بل فى السجن فى السجن البابوى , لتقام ثورة اخرى رافضة تماما للكنيسة ليبعث ب ريندسو ك نائب لممثل الكنيسة "لاخضاع روما" لها و قبل مرور شهرين أشعل الغوغاء النار في الأبواب واقتحموها، ونهبوا الحجرات. وسيق أسيراً إلى سلم الكبتول، حيث كان هو من قبل قد حكم على الناس بالإعدام. وطلب إلى الشعب أن يستمع له، وحاول أن يستميل قلوب العامة بخطبته، ولكن أحد الصناع خشي أن يتأثر هؤلاء بفصاحته، فقطع عليه كلامه بضربة سيف في بطنه. وتبعه مائة من أشباه الأبطال فأنفذوا خناجرهم في جسده الميت. ثم سحبت جثته والدم يسيل منها في شوارع المدينة وعلقت في حانوت قصاب كما تعلق جيف البهائم. وبقيت على هذه الحال يومين تعرضت في خلالهما لإهانات الشعب وحجارة الغلمان
و خسر بترارك من تأيده ل ريندسو كما خسر دانتى سابقا من تأييد هنرى السابع و كما ييخسر لاحقا ميلتون من تأيده للثورة الانجليزية فى بيان اخر لفشل زواج المثقفين بالسلطات المتغيرة
لكن بترارك وبوكاتشيو رسموا قصدا كان او غير قصد خطوط النهضة القريبة بعد نضج دام على 10 قرون و ان اوان حصادها و ان كان المدخل الى المستقبل هو الرجوع المؤقت لاداب السابقين
و لأننا فى مجلدات عصر النهضة الايطالى فلابد ان يكثر الحديث عن المعمار و النحت و الفن المصور و هو ما يترك عبء البحث عن القارئ الذى يريد اكمال متعته بالاستعانة قدر الامكان بالصور لان -للاسف- تكلفة طباعه مجلدات قصة الحضارة الكثيرة تمنع الحاق صور ذات جودة عالية , لذا حين يحدثنا ديورانت عن "جيوتو" و انقلابه الفنى الذى سيطلق فنون النهضة من الجمود و الكآبة البيزنطى الى الحركة , نجد انفسنا مضطرين للجوء الى مصادر اخرى خارجية و مساعدة لاكمال الصورة و عدم الاقتصار على الخيال
****************
عصر الايمان شهد اقصى قوة للكنيسة التى كادت ان تكون اوروبا الموحدة التى حلم بها البابا تلو الاخر..خضعت لها ملوك اوروبا العظام واحد تلو الاخر فاستحقت العشرة قرون اسمها و عندما نتحول الى عصر النهضة نجد الكنيسة تنحدر و تبعد عن دائرة الضوء
و يبدأ الامر فليب الرابع ملك فرنسا الذي أثار دهشة العالم المسيحي بهزيمة البابا بنيفاس الثامن، وبعدم اكتفائه بهذه الهزيمة بل اضاف إليها القبض عليه، وإذلاله، ومنع الطعام عنه حتى كاد يميته جوعا...ليتحول البابا تلو الاخر الى لعبة فرنسية و ثم غلبه فرنسا على كل المناصب 113 كردنالا فرنسياً لمجمع الكرادلة المؤلف من 134 كردنالا...و يتحول مقر البابوية من روما الاصل الى أفنيون الواقعه على حدود ايطاليا و فرنسا فى ذلك الحين و الان هى فرنسية بالكامل
و بيبيع المناصب الكنيسة و صكوك الغفران تمتلأ الخزائن لنجد علامات جديدة للبزخ فى البابوية و هنا نستعين بامثلة ديورانت:
كان كلمنت السادس مثلا محوطاً بأقاربه من الذكور والإناث يرتدون أثمن الثياب والفراء، وبطائفة من الفرسان، والأتباع والجنود المسلحين، والقساوسة، والحجاب، ورجال التشريعات، والموسيقيين، والشعراء، والفنانين، والاطباء، والعلماء، والخياطين، والفلاسفة، والطباخين من كانوا موضع حسد الملوك. وكان هؤلاء جميعاً البالغ عددهم قرابة أربعمائة شخص يطعمون، ويكتسون، ويسكنون، ويتقاضون مرتبات من بابا مولع بالإسراف لم يعرف في يوم من الأيام ماذا يتطلبه جمع.
وكان كلمنت يرى نفسه حاكما من واجه أن يقذف الرعب في قلوب رعاياه، وأن يؤثر في نفوس السفراء بضروب "الاستهلاك البادي للعيان" كما يفعل الملوك. وكان لا بد للكرادلة أيضاً، وهم مجلس الدولة الملكي وأمراء الكنيسة في الوقت عينه، أن يكون لهم ما يليق بمكانتهم وسلطانهم من مظاهر، فكانت حاشيتهم، وبطانتهم، ومآدبهم حديث أهل المدينة. ولعل الكردنال برنارد الجرفيزي قد جاوز في التنعم والأبهة الحد المعقول حين أستأجر واحدا وخمسين مسكنا تقيم فيها حاشيته، وفعل فعله الكردنال بطرس البنها كي الذي كان في خمسة من اسطبلاته العشرة تسعة وثلاثون حصاناً من أحسن طراز منعمة مستريحة. ونهج هذا النهج عينه الأساقفة أنفسهم، وكانت لهم هم أيضاً قصور فخمة مليئة بالمهرجين، والبزاة، والكلاب، على الرغم من احتجاج المجالس المقدسة في الأقاليم.
و بين تنقل و قلق الكنيسة و مقارها بين روما و مرسيليا و حدود فرنسا-ايطالية كانت الدراما و الحرب و كثير من سفك الدماء لملأ الخزائن البابوية الفارغة و اجبار الولايات البابوية على العودة للكنيسة الام
وكان البابا في خلال ذلك قد سير إلى إيطاليا قوة من الجنود البريطانيين المرتزقين الجفاة بقيادة "الكردنال المندوب البابوي ربرت من أهل جنيفا". وخاض ربرت غمار الحرب بوحشية لا يكاد يصدقها عاقل، من ذلك أنه لما استولى على كازينا بعد أن قطع على نفسه عهدا بالعفو عن أهلها قتل بالسيف كل من كان فيها من رجال ونساء وأطفال. وكان جون هوكودك يقود جنود المرتزقة في خدمة الكنيسة، فذبح هو الآخر في فائندسا أربعة آلاف من أهلها لارتيابه في أن البلدة تريد الانضمام إلى الثورة.
***************
و من المال التجارى و ثروة الطبقة المتوسطة كانت بداية الاهتمام بالفنون و الاداب فاشترت مخطوطات الزمن الغابر و وضعت بين ايدى عقول تحررت من النزعة الزمنية ارتاب من قواعد الكنيسة التعسفية و لم يعد يرهبه الخوف من الجحيم خاصة حين انحدر مستوى افراد الكنيسة بحسد و غل معلن ظاهر ... و من قلب افعال اواخر العصور الوسطى ولدت النهضة فقيام الجامعات و زيادة حركة الترجمة و انتشار العلم و رجوع الفلسفة , فتحرر من قيود العقل محبا للجمال و للفن و ابدع فى تلك الفترة النهضاوية ... لكن اسس قيام النهضة كانت هى نفسها اسس انقضاءها حين سرت الفوضى الاخلاقية و النزعة الفردية , و لكن لم الاستعجال على النهايات؟ فلذلك قول اخر
اما البداية فكانت فلورانيس التى تملكت التجارة , تعرضها لجنسيات مختلفة و اديان مختلفة تعلمها ببطئ التسامح و قبول الاخر و البعد عن تزمت الكنيسة فيما عداها ...و تمدها بالمال اللازم ل"رفاهية" النهضة الفنية بل و رفاهية قليل من الديموقراطية و الانتخابات تصنع سلم اجتماعى مصحوب بتنافس و حركة و لعلها بعض المؤامرات مختلف تماما عن حال الاقطاع و رقيق الارض
و يبدو النظام ديموقراطى اذ ا قورن بسيطرة الباباوية على اوروبا و بالاقطاع الفرنسى الجاف و رقيق ارضه المسحوقين...لكنه يظهر كنظام الجيركى ضيق اذا قورن بالديموقراطية الاثينيه فعدد الناخبين لا يزيد عن 3200 ولا يشتمل على اى من مواطنين المدن الخاضعة للفلورانسا
***************
و هنا نحب ان ندون حركة شيوعية اخرى من حركات الثورة التى تمتلأ بيها سطور التاريخ قبل ماركس بقرون ..و تبدو باهتة على صفحات الكتب لكنها تثير الذهن و الحماس ان رأها الفرد رؤيا العين
حدثت فتنة ممشطي الصوف التي جعلت لطبقات العمال السيطرة على البلدية فترة قصيرة عصبية. وتفصيل ذلك أن عاملا حافي القدمين يدعى ميتشيلي دي لاندو قاد هؤلاء الممشطين واندفع بهم إلى البلاتسوفيتشيو وطردوا كبار الموظفين، واقاموا مكانهم دكتاتورية العمال عا 1378. والغيت حينئذ القوانين التي تحرم إنشاء الاتحادات، ومنحت الاتحادات الصغرى حق الانتخاب. وأجل أداء ما على الأجراء من ديون مدة اثنتي عشر سنة.
وخفضت فوائد هذه الديون ليخفف بذلك العبء على الطبقات المدينة. ورد زعماء العمال على هذا بأن اغلقوا حوانيتهم، وأغروا ملاك الأراضي بقطع الطعام عن المدينة. وضايق ذلك الثوار فانقسموا حزبين أحدهما يتألف ارستقراطية العمال وقوامه الصناع الحاذقون، وثانيهما »جناح يساري« تدفعه إلى العمل آراء شيوعية، وانتهى الأمر بأن جاء المحافظون برجال أشداء من الريف، وسلحوهم، وقلبوا الحكومة المنقسمة على نفسها، وأعادوا السلطة إلى طبقة أصحاب العمال سنه 1382
**************
و القراءة فى صفحات عصر النهضة ممتعة و التنقل بين مؤمرات الحكام و المدن و التنقلات المستمرة بين الديموقراطية و السلطوية و بين الاتحاد الايطالى و تشتت مدنه الصغيرة
و التنقل بين رجال متفردين ك كوزيمو لورندسو و تباديل الزمن على عائلة ميديتشي و احوالها شئ يثير العجب و يجعلنا نتسأل كيف عاش اهل ايطاليا هذا كله؟ ... لكن العالم استفاد من كل المؤامرات و التقلبات السياسة رسم عظيم و نحت مبهر نتج من كرم اهل الجمهورية و رئيسهم
و شخصية لورندسو هو مثال لرجل النهضة المحب للعلم و الفن و ال"حاوى" لاساليب السياسة و لم يكن يختلف عن افكار هذا العصر الخيالى الا فى نقطة العنف
و تفصيل ذلك ان واجه لورندسو بعد قليل من عودته من روما أولى أزماته الكبرى التي لم يفلح كل الفلاح في معالجتها. وتفصيل ذلك أن منجماً من مناجم الشب في ناحية فلتيرا - وهي جزء من أملاك فلورنس- قد أجر إلى بعض المتعهدين أكبر الظن أنهم كانوا ذوي صلة بآل ميديتشي. فلما تبين لأهل فلتيرا أن المنجم يدر ربحاً موفوراً طالبوا بأن يكون للبلدية قسط من هذا الربح. فأحتج المتعهدون على هذا الطلب، ورفعوا امرهم إلى مجلس فلورنس الأعلى. وزاد المجلس المشكلة تعقيداً حين أمر بأن يذهب الربح بأجمعه إلى بيت مال دولة فلورنس كلها. واعترضت فلتيرا على هذا الأمر، وأعلنت استقلالها، وقتلت عدداً من الأهلين الذين عارضوا في انفصالها عن فلورنس.وأشار توماسو سودير يني بتسوية الخلاف بالتوفيق بين الطرفين، ولكن لورندسو رفض ما عرض عليه من وسائل التوفيق، وكانت حجته أن ذلك يشجع الفتن وحركات الانفصال في أنحاء أخرى من الدولة، وأخذ بهذا الرأي، وأخمدت الفتنة بالقوة القاهرة، وأفلت زمام جنود فلورنس المرتزقين، ونهبوا المدينة الثائرة فلم يسمع لورندسو إلا أن يعجل بالذهاب إلا فلتيرا، ويبذل جهده لإعادة النظام وإصلاح ما فسد من الأمور، ولكن ذلك العمل بقي وصمة في سجل حكمه.
لكن حتى العنف ينسى سريعا فى زحام الانجازات و السلم الذى اشتاق له اهل فلورانس كثيرا
**************
ولا يمكنا الحديث عن عصر النهضة دون ان نذكر الكتاب الانسانيون من يعتبرهم الكثيرين البداية الحقيقية لتفكير رجل عصر النهضة خيل إلى هؤلاء أن روما الإمبراطورية أعظم نبلاً وكرامة من انزواء المسيحيين المؤمنين في صوامع الأديرة، كما أن الحرية التي اتسم بها تفكير اليونان في أيام بركليز والرومان في عهد أغسطس قد أفعمت عقول كثيرين من اٌلإنسانيين بالحسد الذي حطم في قلوبهم العقائد المسيحية التي تحث على التذلل، والإيمان بالدار الآخرة، والعفة، وأخذوا يتساءلون عما يدعوهم إلى إخضاع أجسامهم، وعقولهم، وأرواحهم إلى قواعد رجال الكنيسة الذين انقلبوا وقتئذ رجالا دنيويين، وأخذوا هم أنفسهم يمرحون ويطربون.
فتعلق هؤلاء باليونانية لغه و علوم و اداب و فن , و اصبحت روما عاصمتهم الروحية و الفكرية و وجدوا فى خرائبها مجدا يزيد عن مجد الكنائس , كرهوا المسيحية سرا كثيرا و جهرا نادرا , بل حاول بعضهم ان يجد توازن ما بينهم , وكانت العشرة القرون التي انقضت بين قسطنطين ودانتي في نظر هؤلاء الإنسانيين غلطة يؤسف لها أشد الأسف، و انتصر افلاطون بعد قرون من تسلط افكار ارسطو
***********
لكن وسط كل أبهة الفن و جمال الادب و الشعر تظهر شخصية تليق اكثر بالقرون العشرة التى سميت بالعصور الوسطى اكثر مما تليق وسط نهضة ايطاليا الخلابة
انطلق "سفنرولا" فى رحلة عجائبية مثيرة بين ما يشبه النبوة الى الحكم ثم الاستشهاد فاللعن فاختلاط هذا كله مكونا احد اغرب شخصيات سياسة النهضة على الاطلاق
بدأ سفنرولا ك راهب ثم انتقل الى ما يشبه الداعية ولا نعلم ان كان اعجبه الحديث الى الجمهور خاصه بعد اقناعهم ان حديثه وحى من الاله و ليس رأيى او توقع او لا لكن النتيجة كانت تفرغه للخطابة و للتنديد المستمر بالفساد الخلقى و ربما ان تفرغ لهذا ايضا لمر الامر لكن تخصصه فى الحديث عن الفساد السياسى قلب الموازين , ذلك أن سفنرولا لا يقول إن الآداب والفنون من أعمال الوثنيين؛ وإن قول الإنسانيين إنهم مسيحيون محض اختلاق، وإن أولئك المؤلفين الأقدمين الذين يجدُّون هم في الكشف عن آثارهم ونشرها والثناء عليها غرباء عن المسيح وعن الفضائل المسيحية، وليس فنهم إلا وثنية وعبادة لآلهة الكفار، أو إنها عرض فاجر للعرايا من النساء والرجال.
وقت الحكم القومى لا تنجح تلك الانواع من المقاومة الشفهية لكن بعد وفاة لورندسو و تولى ابنه بيرو الاضعف و الاقل سيطرة على احوال فلورانس السياسية المتشابكة اصبح سفنرولا اكبر قوة على الساحة , و بمقاومة البابا اسكندر السادس له و سحب البساط من تحته انطلق سفنرولا غير باكى على شئ فأخذ يندد بالثراء الدنيوي الذي يستمتع به رجال الدين، وبما يتجلى في الحفلات الكنسية من أبهة وفخامة، ويشنع على "الأحبار الكبار الذين يضعون على رؤوسهم تيجاناً فخمة من الذهب والحجارة الكريمة... وعلى ملابسهم الجميلة وأوشحتهم المنسوجة من الديباج المقصب". وأخذ يقارن هذا بما كان عليه رجال الكنيسة الأولون من بساطة، ويقول إن هؤلاء "لم تكن لهم تيجان ذهبية وأقداح قربان إلا أقل من القليل؛ وذلك لأن القليل الذي كانوا يملكونه منها قد تحطم ليسد حاجة الفقراء والمعوزين؛ أما أحبارنا فإنهم ينهبون من الفقراء ما لا يملكون سواء ليقيموا به أودهم، ليحصلوا به على أقداحهم". وكان يضيف إلى هذا التشهير نبوءات بسوء المصير.
و بعد حملة شارل الثامن على البابوية الشهيرة و بعد اخطاء بيرو المتعددة انقلب المنذر و الراهب حاكما شبه مطلق للمدينة الثرية التى انتقلت بسرعة الصاروخ من الدعة و المرح و الاحتفالات و الفن و الموسيقى و بدأ ما ظن انه ثورة اخلاقية و ترك النساء و الاثرياء لملابس الجاه كان دراميا
و ربما تجاوز سفنرولا الامر قليلا و اعجب بانتصاره اكثر من اللازم فنظم الغلمان من جماعته في شرطة أخلاقية مهمتها المساعدة على تنفيذ هذه الإصلاحيات. وتعهد هؤلاء الغلمان بأن يداوموا على الذهاب إلى الكنيسة بانتظام، ويتجنبوا مشاهدة السباق، والاستعراضات، والألعاب البهلوانية، وصحبة الأرذال الفاسدين، والإطلاع على الأدب البذيء، ومشاهدة الرقص، ومدارس الموسيقى، كما تعهدوا بتقصير شعر الرأس. وكانت "عصب الأمل" هذه تجوب الشوارع تطلب الصدقات للكنيسة؛ وتشتت الجماعات التي تحتشد للعب الميسر، وتنتزع أجسام النساء ما ترى أنه غير لائق من الثياب.
لكن الطبيعة البشرية لا تتبدل بتلك السرعه و سرعان ما اجتمعت الاسر الثرية و العامة المشتاقين لعصر ال ميتديشى الذهبى بانتخاب حاكم اخر كان اول اعماله محاكمة سفنرولا ذاته
و بخطاب غصب من البابوية فقد سفنرولا حتى غطاءه الدينى بعد فقدانه للغطاء السياسى , و بتسرعه بسب البابا على منبر الكنيسة الفلورانسية ذاتها و بترحابه بالحرمان الدينى كتب نهاية لقصته المعقدة
وكان مجلس السيادة يصر على إعدام سفنرولا، وذلك لاعتقاده أن حزبه سيبقى قائماً ما دام هو حياً؛ وأن موته هو الذي يرأب الصدع الذي قسم المدينة وجرى المحققون على الشريعة التي سنتها محكمة للتفتيش، فأخذوا يعذبون الرهبان , وتوترت أعصاب سفنرولا وخارت قوله فلم يلبث أن انهار تحت ضغط التعذيب فتحطمت روحه وأمضى اعترافا مهوشاً بأنه لم يتلق وحياً إلهياً، وأنه آثم في كبريائه وأطماعه، وأنه حث قوى أجنبية زمنية على أن تعقد مجلساً عاماً للكنيسة، وأنه دبر مؤامرة لخلع البابا.
مايو عام 1498 نفذ حكم الإعدام واقتيدوا حفاة مجردين من ثيابهم الكهنوتية إلى ميدان مجلس السيادة وشنق سفنرولا و اثنين من معاونية وتركوا معلقين، وسمح للصبيان أن يرشقوهم بالحجارة وهم في حشرجة الموت. وأوقدت تحتهم نار حامية أحالت جثثهم رماداً؛ ثم ألقي الرماد في نهر الأرنو لئلا يعبد الناس بوصفه بقايا القديسين. وجاء بعض الباكين يتحدون الإحراق بالنار فركعوا في الميدان وأخذوا ينتحبون ويصلون؛ وظلت الأزهار تنثر في صباح اليوم التالي للثالث والعشرين من مايو في كل عام حتى عام 1703 في البقعة التي سقطت فيها دماء الرهبان الساخنة. وترى اليوم لوحة في أرض الميدان المرصوفة تشير إلى أشنع جريمة وقعت في تاريخ فلورنس.
***********
و بين قصص سفنرولا و ال آل ميديتشي و تعقيدات و جمال قصص النهضة نتجه مستبشرين الى المجلد الثانى من قصة ايطاليا الممتعة و المجلد الثلاثون
دينا نبيل
يونيو 2015
رفـــايـــع
تأليف: ول ديورانت
ترجمة: محمد بدران
عدد الصفحات: 339 صفحة
اصدارات دار نوبليس
التقييم: 5/5
نعود الى ايطاليا مرة اخرى مركز للاحداث بعد غياب دام تسعة مجلدات -و قارئ قصة الحضارة الذى اتخذها عادة يقيس التاريخ بالمجلدات و الصفحات لا السنوات و القرون- لنجد ديورانت ينير لنا الضوء عن ايطاليا تنتفض بعد عقود طويلة لتأخذ الريادة و تضئ العالم مرة اخرى بعد ان قادته قديما.
ربما يجب ان ان نعد ثورة "ريندسو" فى روما بداية لا بأس بها لذلك العصر حين نزع "ابن صاحب الحان و الغسالة" الملك من اشراف روما و النبلاء "المتنازعين الناهبين" لتثير خيالات روما القديمة النفوس و يتذكر الجميع الاخوين جراكس و شيشرون و اعادة الجمهورية المجيدة خاصه مع اتفاق البابا و بعثه مرسل منه كشريك فى الحكم ...و يصدم الجميع من نجاح ارادة "ريندسو" و اعادة الامن المفقود و تجفيف المستقعنات و عودة العدل بعد غياب الى محاكم روما و وشك حلم لم الشمل القديم على التنفيذ.
و محب قراءة التاريخ يدرك نهاية تلك الثورة و ان لم يقرأ عنها ولا عن عصرها , ذلك ان التاريخ يعلم دروسه المتتالية لمن اراد و هم ليسوا بالكثرة على اى حال, فسكر "ريندسو" بنشوه انتصاره على الاشراف فامتطى صهوة جواد ابيض و يتقدمه الف حارس مسلح و يرتدى الثياب الحريرية البيض باهداب الذهب فى موكب تحت رايات الملكية و يهمل ممثل البابا , فيخير بين الخلع و بين القبول اقتصار حكم روما الدنيوية بمعنى التخلى عن حكم باقى ايطاليا لم الشمل من جانب و عن اخضاع الكنيسة للحكم الدنيوى من جانب اخر ...و عموما لم تمر فترة طويلة حتى صدر مرسوم بابوى يوصفه بالالحاد و الاجرام
حتى هنا تعد قصة تاريخية "كلاسيكية" للغاية غير ان تاريخ روما قلما يقدم لنا قصص عادية فكانت التكملة العجيبة, بعد هرب ريندسو الى براج و من ثم عودته للمحاكمة كنسيا شعر الرومان بالذل حتى ان بترارك فى خطبة شهيرة له يقول:
"ان زعيمكم السابق أسير الآن في أيدي الأجانب، وكأنه-ويا للهول حقاً!- لص من لصوص الليل أو خائن لبلاده، يعرض قضيته وهو مصفد في الأغلال، تأبى أعلى محكمة أرضية أن تمكنه من الدفاع المشروع عن نفسه... إن روما بلا ريب لا تستأهل هذه المعاملة. لقد كان أهلها من قبل غير خاضعين لقانون أجنبي... أما الآن فيساء إليهم بلا تمييز بينهم. ويلقون هذه المعاملة وهم براء من إثم الجريمة بل وهم جديرون بالثناء العظيم الذي يستحقه أهل الفضيلة ... وليست التهمة الموجهة إليه هي خيانة الحرية، بل هي الدفاع عنها، وليس ذنبه أنه سلم الكبتول بل ذنبه أنه حماه. وإن أعظم التهم الموجهة إليه، والتي يجب أن يكفر عنها فوق المشنقة هي أنه قد جرؤ على التوكيد بأن الإمبراطورية الرومانية لا تزال قائمة في روما، وأنها لا تزال مسيطرة على الشعب الروماني. ألا تباً لهذا الزمان! وتباً لتلك الغيرة الشنيعة، وذلك الحقد المنقطع النظير! أين أنت أيها المسيح! يا أعدل القضاة ويا أحكم الحاكمين؟ أين عيناك اللتان تعودت أن تبدد بهما سحب شقاء البشرية؟... لم لا تقضى ببرقك و صواعقك على هذه المحاكمة الدنسة؟"
و ربما نجحت الضغوط فاصدر الحكم بالسجن بدلا من الاعدام بل فى السجن فى السجن البابوى , لتقام ثورة اخرى رافضة تماما للكنيسة ليبعث ب ريندسو ك نائب لممثل الكنيسة "لاخضاع روما" لها و قبل مرور شهرين أشعل الغوغاء النار في الأبواب واقتحموها، ونهبوا الحجرات. وسيق أسيراً إلى سلم الكبتول، حيث كان هو من قبل قد حكم على الناس بالإعدام. وطلب إلى الشعب أن يستمع له، وحاول أن يستميل قلوب العامة بخطبته، ولكن أحد الصناع خشي أن يتأثر هؤلاء بفصاحته، فقطع عليه كلامه بضربة سيف في بطنه. وتبعه مائة من أشباه الأبطال فأنفذوا خناجرهم في جسده الميت. ثم سحبت جثته والدم يسيل منها في شوارع المدينة وعلقت في حانوت قصاب كما تعلق جيف البهائم. وبقيت على هذه الحال يومين تعرضت في خلالهما لإهانات الشعب وحجارة الغلمان
و خسر بترارك من تأيده ل ريندسو كما خسر دانتى سابقا من تأييد هنرى السابع و كما ييخسر لاحقا ميلتون من تأيده للثورة الانجليزية فى بيان اخر لفشل زواج المثقفين بالسلطات المتغيرة
لكن بترارك وبوكاتشيو رسموا قصدا كان او غير قصد خطوط النهضة القريبة بعد نضج دام على 10 قرون و ان اوان حصادها و ان كان المدخل الى المستقبل هو الرجوع المؤقت لاداب السابقين
و لأننا فى مجلدات عصر النهضة الايطالى فلابد ان يكثر الحديث عن المعمار و النحت و الفن المصور و هو ما يترك عبء البحث عن القارئ الذى يريد اكمال متعته بالاستعانة قدر الامكان بالصور لان -للاسف- تكلفة طباعه مجلدات قصة الحضارة الكثيرة تمنع الحاق صور ذات جودة عالية , لذا حين يحدثنا ديورانت عن "جيوتو" و انقلابه الفنى الذى سيطلق فنون النهضة من الجمود و الكآبة البيزنطى الى الحركة , نجد انفسنا مضطرين للجوء الى مصادر اخرى خارجية و مساعدة لاكمال الصورة و عدم الاقتصار على الخيال
****************
عصر الايمان شهد اقصى قوة للكنيسة التى كادت ان تكون اوروبا الموحدة التى حلم بها البابا تلو الاخر..خضعت لها ملوك اوروبا العظام واحد تلو الاخر فاستحقت العشرة قرون اسمها و عندما نتحول الى عصر النهضة نجد الكنيسة تنحدر و تبعد عن دائرة الضوء
و يبدأ الامر فليب الرابع ملك فرنسا الذي أثار دهشة العالم المسيحي بهزيمة البابا بنيفاس الثامن، وبعدم اكتفائه بهذه الهزيمة بل اضاف إليها القبض عليه، وإذلاله، ومنع الطعام عنه حتى كاد يميته جوعا...ليتحول البابا تلو الاخر الى لعبة فرنسية و ثم غلبه فرنسا على كل المناصب 113 كردنالا فرنسياً لمجمع الكرادلة المؤلف من 134 كردنالا...و يتحول مقر البابوية من روما الاصل الى أفنيون الواقعه على حدود ايطاليا و فرنسا فى ذلك الحين و الان هى فرنسية بالكامل
و بيبيع المناصب الكنيسة و صكوك الغفران تمتلأ الخزائن لنجد علامات جديدة للبزخ فى البابوية و هنا نستعين بامثلة ديورانت:
كان كلمنت السادس مثلا محوطاً بأقاربه من الذكور والإناث يرتدون أثمن الثياب والفراء، وبطائفة من الفرسان، والأتباع والجنود المسلحين، والقساوسة، والحجاب، ورجال التشريعات، والموسيقيين، والشعراء، والفنانين، والاطباء، والعلماء، والخياطين، والفلاسفة، والطباخين من كانوا موضع حسد الملوك. وكان هؤلاء جميعاً البالغ عددهم قرابة أربعمائة شخص يطعمون، ويكتسون، ويسكنون، ويتقاضون مرتبات من بابا مولع بالإسراف لم يعرف في يوم من الأيام ماذا يتطلبه جمع.
وكان كلمنت يرى نفسه حاكما من واجه أن يقذف الرعب في قلوب رعاياه، وأن يؤثر في نفوس السفراء بضروب "الاستهلاك البادي للعيان" كما يفعل الملوك. وكان لا بد للكرادلة أيضاً، وهم مجلس الدولة الملكي وأمراء الكنيسة في الوقت عينه، أن يكون لهم ما يليق بمكانتهم وسلطانهم من مظاهر، فكانت حاشيتهم، وبطانتهم، ومآدبهم حديث أهل المدينة. ولعل الكردنال برنارد الجرفيزي قد جاوز في التنعم والأبهة الحد المعقول حين أستأجر واحدا وخمسين مسكنا تقيم فيها حاشيته، وفعل فعله الكردنال بطرس البنها كي الذي كان في خمسة من اسطبلاته العشرة تسعة وثلاثون حصاناً من أحسن طراز منعمة مستريحة. ونهج هذا النهج عينه الأساقفة أنفسهم، وكانت لهم هم أيضاً قصور فخمة مليئة بالمهرجين، والبزاة، والكلاب، على الرغم من احتجاج المجالس المقدسة في الأقاليم.
و بين تنقل و قلق الكنيسة و مقارها بين روما و مرسيليا و حدود فرنسا-ايطالية كانت الدراما و الحرب و كثير من سفك الدماء لملأ الخزائن البابوية الفارغة و اجبار الولايات البابوية على العودة للكنيسة الام
وكان البابا في خلال ذلك قد سير إلى إيطاليا قوة من الجنود البريطانيين المرتزقين الجفاة بقيادة "الكردنال المندوب البابوي ربرت من أهل جنيفا". وخاض ربرت غمار الحرب بوحشية لا يكاد يصدقها عاقل، من ذلك أنه لما استولى على كازينا بعد أن قطع على نفسه عهدا بالعفو عن أهلها قتل بالسيف كل من كان فيها من رجال ونساء وأطفال. وكان جون هوكودك يقود جنود المرتزقة في خدمة الكنيسة، فذبح هو الآخر في فائندسا أربعة آلاف من أهلها لارتيابه في أن البلدة تريد الانضمام إلى الثورة.
***************
و من المال التجارى و ثروة الطبقة المتوسطة كانت بداية الاهتمام بالفنون و الاداب فاشترت مخطوطات الزمن الغابر و وضعت بين ايدى عقول تحررت من النزعة الزمنية ارتاب من قواعد الكنيسة التعسفية و لم يعد يرهبه الخوف من الجحيم خاصة حين انحدر مستوى افراد الكنيسة بحسد و غل معلن ظاهر ... و من قلب افعال اواخر العصور الوسطى ولدت النهضة فقيام الجامعات و زيادة حركة الترجمة و انتشار العلم و رجوع الفلسفة , فتحرر من قيود العقل محبا للجمال و للفن و ابدع فى تلك الفترة النهضاوية ... لكن اسس قيام النهضة كانت هى نفسها اسس انقضاءها حين سرت الفوضى الاخلاقية و النزعة الفردية , و لكن لم الاستعجال على النهايات؟ فلذلك قول اخر
اما البداية فكانت فلورانيس التى تملكت التجارة , تعرضها لجنسيات مختلفة و اديان مختلفة تعلمها ببطئ التسامح و قبول الاخر و البعد عن تزمت الكنيسة فيما عداها ...و تمدها بالمال اللازم ل"رفاهية" النهضة الفنية بل و رفاهية قليل من الديموقراطية و الانتخابات تصنع سلم اجتماعى مصحوب بتنافس و حركة و لعلها بعض المؤامرات مختلف تماما عن حال الاقطاع و رقيق الارض
و يبدو النظام ديموقراطى اذ ا قورن بسيطرة الباباوية على اوروبا و بالاقطاع الفرنسى الجاف و رقيق ارضه المسحوقين...لكنه يظهر كنظام الجيركى ضيق اذا قورن بالديموقراطية الاثينيه فعدد الناخبين لا يزيد عن 3200 ولا يشتمل على اى من مواطنين المدن الخاضعة للفلورانسا
***************
و هنا نحب ان ندون حركة شيوعية اخرى من حركات الثورة التى تمتلأ بيها سطور التاريخ قبل ماركس بقرون ..و تبدو باهتة على صفحات الكتب لكنها تثير الذهن و الحماس ان رأها الفرد رؤيا العين
حدثت فتنة ممشطي الصوف التي جعلت لطبقات العمال السيطرة على البلدية فترة قصيرة عصبية. وتفصيل ذلك أن عاملا حافي القدمين يدعى ميتشيلي دي لاندو قاد هؤلاء الممشطين واندفع بهم إلى البلاتسوفيتشيو وطردوا كبار الموظفين، واقاموا مكانهم دكتاتورية العمال عا 1378. والغيت حينئذ القوانين التي تحرم إنشاء الاتحادات، ومنحت الاتحادات الصغرى حق الانتخاب. وأجل أداء ما على الأجراء من ديون مدة اثنتي عشر سنة.
وخفضت فوائد هذه الديون ليخفف بذلك العبء على الطبقات المدينة. ورد زعماء العمال على هذا بأن اغلقوا حوانيتهم، وأغروا ملاك الأراضي بقطع الطعام عن المدينة. وضايق ذلك الثوار فانقسموا حزبين أحدهما يتألف ارستقراطية العمال وقوامه الصناع الحاذقون، وثانيهما »جناح يساري« تدفعه إلى العمل آراء شيوعية، وانتهى الأمر بأن جاء المحافظون برجال أشداء من الريف، وسلحوهم، وقلبوا الحكومة المنقسمة على نفسها، وأعادوا السلطة إلى طبقة أصحاب العمال سنه 1382
**************
و القراءة فى صفحات عصر النهضة ممتعة و التنقل بين مؤمرات الحكام و المدن و التنقلات المستمرة بين الديموقراطية و السلطوية و بين الاتحاد الايطالى و تشتت مدنه الصغيرة
و التنقل بين رجال متفردين ك كوزيمو لورندسو و تباديل الزمن على عائلة ميديتشي و احوالها شئ يثير العجب و يجعلنا نتسأل كيف عاش اهل ايطاليا هذا كله؟ ... لكن العالم استفاد من كل المؤامرات و التقلبات السياسة رسم عظيم و نحت مبهر نتج من كرم اهل الجمهورية و رئيسهم
و شخصية لورندسو هو مثال لرجل النهضة المحب للعلم و الفن و ال"حاوى" لاساليب السياسة و لم يكن يختلف عن افكار هذا العصر الخيالى الا فى نقطة العنف
و تفصيل ذلك ان واجه لورندسو بعد قليل من عودته من روما أولى أزماته الكبرى التي لم يفلح كل الفلاح في معالجتها. وتفصيل ذلك أن منجماً من مناجم الشب في ناحية فلتيرا - وهي جزء من أملاك فلورنس- قد أجر إلى بعض المتعهدين أكبر الظن أنهم كانوا ذوي صلة بآل ميديتشي. فلما تبين لأهل فلتيرا أن المنجم يدر ربحاً موفوراً طالبوا بأن يكون للبلدية قسط من هذا الربح. فأحتج المتعهدون على هذا الطلب، ورفعوا امرهم إلى مجلس فلورنس الأعلى. وزاد المجلس المشكلة تعقيداً حين أمر بأن يذهب الربح بأجمعه إلى بيت مال دولة فلورنس كلها. واعترضت فلتيرا على هذا الأمر، وأعلنت استقلالها، وقتلت عدداً من الأهلين الذين عارضوا في انفصالها عن فلورنس.وأشار توماسو سودير يني بتسوية الخلاف بالتوفيق بين الطرفين، ولكن لورندسو رفض ما عرض عليه من وسائل التوفيق، وكانت حجته أن ذلك يشجع الفتن وحركات الانفصال في أنحاء أخرى من الدولة، وأخذ بهذا الرأي، وأخمدت الفتنة بالقوة القاهرة، وأفلت زمام جنود فلورنس المرتزقين، ونهبوا المدينة الثائرة فلم يسمع لورندسو إلا أن يعجل بالذهاب إلا فلتيرا، ويبذل جهده لإعادة النظام وإصلاح ما فسد من الأمور، ولكن ذلك العمل بقي وصمة في سجل حكمه.
لكن حتى العنف ينسى سريعا فى زحام الانجازات و السلم الذى اشتاق له اهل فلورانس كثيرا
**************
ولا يمكنا الحديث عن عصر النهضة دون ان نذكر الكتاب الانسانيون من يعتبرهم الكثيرين البداية الحقيقية لتفكير رجل عصر النهضة خيل إلى هؤلاء أن روما الإمبراطورية أعظم نبلاً وكرامة من انزواء المسيحيين المؤمنين في صوامع الأديرة، كما أن الحرية التي اتسم بها تفكير اليونان في أيام بركليز والرومان في عهد أغسطس قد أفعمت عقول كثيرين من اٌلإنسانيين بالحسد الذي حطم في قلوبهم العقائد المسيحية التي تحث على التذلل، والإيمان بالدار الآخرة، والعفة، وأخذوا يتساءلون عما يدعوهم إلى إخضاع أجسامهم، وعقولهم، وأرواحهم إلى قواعد رجال الكنيسة الذين انقلبوا وقتئذ رجالا دنيويين، وأخذوا هم أنفسهم يمرحون ويطربون.
فتعلق هؤلاء باليونانية لغه و علوم و اداب و فن , و اصبحت روما عاصمتهم الروحية و الفكرية و وجدوا فى خرائبها مجدا يزيد عن مجد الكنائس , كرهوا المسيحية سرا كثيرا و جهرا نادرا , بل حاول بعضهم ان يجد توازن ما بينهم , وكانت العشرة القرون التي انقضت بين قسطنطين ودانتي في نظر هؤلاء الإنسانيين غلطة يؤسف لها أشد الأسف، و انتصر افلاطون بعد قرون من تسلط افكار ارسطو
***********
لكن وسط كل أبهة الفن و جمال الادب و الشعر تظهر شخصية تليق اكثر بالقرون العشرة التى سميت بالعصور الوسطى اكثر مما تليق وسط نهضة ايطاليا الخلابة
انطلق "سفنرولا" فى رحلة عجائبية مثيرة بين ما يشبه النبوة الى الحكم ثم الاستشهاد فاللعن فاختلاط هذا كله مكونا احد اغرب شخصيات سياسة النهضة على الاطلاق
بدأ سفنرولا ك راهب ثم انتقل الى ما يشبه الداعية ولا نعلم ان كان اعجبه الحديث الى الجمهور خاصه بعد اقناعهم ان حديثه وحى من الاله و ليس رأيى او توقع او لا لكن النتيجة كانت تفرغه للخطابة و للتنديد المستمر بالفساد الخلقى و ربما ان تفرغ لهذا ايضا لمر الامر لكن تخصصه فى الحديث عن الفساد السياسى قلب الموازين , ذلك أن سفنرولا لا يقول إن الآداب والفنون من أعمال الوثنيين؛ وإن قول الإنسانيين إنهم مسيحيون محض اختلاق، وإن أولئك المؤلفين الأقدمين الذين يجدُّون هم في الكشف عن آثارهم ونشرها والثناء عليها غرباء عن المسيح وعن الفضائل المسيحية، وليس فنهم إلا وثنية وعبادة لآلهة الكفار، أو إنها عرض فاجر للعرايا من النساء والرجال.
وقت الحكم القومى لا تنجح تلك الانواع من المقاومة الشفهية لكن بعد وفاة لورندسو و تولى ابنه بيرو الاضعف و الاقل سيطرة على احوال فلورانس السياسية المتشابكة اصبح سفنرولا اكبر قوة على الساحة , و بمقاومة البابا اسكندر السادس له و سحب البساط من تحته انطلق سفنرولا غير باكى على شئ فأخذ يندد بالثراء الدنيوي الذي يستمتع به رجال الدين، وبما يتجلى في الحفلات الكنسية من أبهة وفخامة، ويشنع على "الأحبار الكبار الذين يضعون على رؤوسهم تيجاناً فخمة من الذهب والحجارة الكريمة... وعلى ملابسهم الجميلة وأوشحتهم المنسوجة من الديباج المقصب". وأخذ يقارن هذا بما كان عليه رجال الكنيسة الأولون من بساطة، ويقول إن هؤلاء "لم تكن لهم تيجان ذهبية وأقداح قربان إلا أقل من القليل؛ وذلك لأن القليل الذي كانوا يملكونه منها قد تحطم ليسد حاجة الفقراء والمعوزين؛ أما أحبارنا فإنهم ينهبون من الفقراء ما لا يملكون سواء ليقيموا به أودهم، ليحصلوا به على أقداحهم". وكان يضيف إلى هذا التشهير نبوءات بسوء المصير.
و بعد حملة شارل الثامن على البابوية الشهيرة و بعد اخطاء بيرو المتعددة انقلب المنذر و الراهب حاكما شبه مطلق للمدينة الثرية التى انتقلت بسرعة الصاروخ من الدعة و المرح و الاحتفالات و الفن و الموسيقى و بدأ ما ظن انه ثورة اخلاقية و ترك النساء و الاثرياء لملابس الجاه كان دراميا
و ربما تجاوز سفنرولا الامر قليلا و اعجب بانتصاره اكثر من اللازم فنظم الغلمان من جماعته في شرطة أخلاقية مهمتها المساعدة على تنفيذ هذه الإصلاحيات. وتعهد هؤلاء الغلمان بأن يداوموا على الذهاب إلى الكنيسة بانتظام، ويتجنبوا مشاهدة السباق، والاستعراضات، والألعاب البهلوانية، وصحبة الأرذال الفاسدين، والإطلاع على الأدب البذيء، ومشاهدة الرقص، ومدارس الموسيقى، كما تعهدوا بتقصير شعر الرأس. وكانت "عصب الأمل" هذه تجوب الشوارع تطلب الصدقات للكنيسة؛ وتشتت الجماعات التي تحتشد للعب الميسر، وتنتزع أجسام النساء ما ترى أنه غير لائق من الثياب.
لكن الطبيعة البشرية لا تتبدل بتلك السرعه و سرعان ما اجتمعت الاسر الثرية و العامة المشتاقين لعصر ال ميتديشى الذهبى بانتخاب حاكم اخر كان اول اعماله محاكمة سفنرولا ذاته
و بخطاب غصب من البابوية فقد سفنرولا حتى غطاءه الدينى بعد فقدانه للغطاء السياسى , و بتسرعه بسب البابا على منبر الكنيسة الفلورانسية ذاتها و بترحابه بالحرمان الدينى كتب نهاية لقصته المعقدة
وكان مجلس السيادة يصر على إعدام سفنرولا، وذلك لاعتقاده أن حزبه سيبقى قائماً ما دام هو حياً؛ وأن موته هو الذي يرأب الصدع الذي قسم المدينة وجرى المحققون على الشريعة التي سنتها محكمة للتفتيش، فأخذوا يعذبون الرهبان , وتوترت أعصاب سفنرولا وخارت قوله فلم يلبث أن انهار تحت ضغط التعذيب فتحطمت روحه وأمضى اعترافا مهوشاً بأنه لم يتلق وحياً إلهياً، وأنه آثم في كبريائه وأطماعه، وأنه حث قوى أجنبية زمنية على أن تعقد مجلساً عاماً للكنيسة، وأنه دبر مؤامرة لخلع البابا.
مايو عام 1498 نفذ حكم الإعدام واقتيدوا حفاة مجردين من ثيابهم الكهنوتية إلى ميدان مجلس السيادة وشنق سفنرولا و اثنين من معاونية وتركوا معلقين، وسمح للصبيان أن يرشقوهم بالحجارة وهم في حشرجة الموت. وأوقدت تحتهم نار حامية أحالت جثثهم رماداً؛ ثم ألقي الرماد في نهر الأرنو لئلا يعبد الناس بوصفه بقايا القديسين. وجاء بعض الباكين يتحدون الإحراق بالنار فركعوا في الميدان وأخذوا ينتحبون ويصلون؛ وظلت الأزهار تنثر في صباح اليوم التالي للثالث والعشرين من مايو في كل عام حتى عام 1703 في البقعة التي سقطت فيها دماء الرهبان الساخنة. وترى اليوم لوحة في أرض الميدان المرصوفة تشير إلى أشنع جريمة وقعت في تاريخ فلورنس.
***********
و بين قصص سفنرولا و ال آل ميديتشي و تعقيدات و جمال قصص النهضة نتجه مستبشرين الى المجلد الثانى من قصة ايطاليا الممتعة و المجلد الثلاثون
دينا نبيل
يونيو 2015
رفـــايـــع