هرطقات ٢: العلمانية كأشكالية اسلامية اسلامية
تأليف: جورج طرابيشى
عدد الصفحات: ٢٤٩ صفحة
اصدارات دار الساقى
التقييم ٥/٤
يمنحنا جورج طرابيشى مرة أخرى كتاب متقن ، مكثف ، محدد....يهرطق كما اراد تلك التسمية فى هذا الجزء عن العلمانية كأشكالية اسلامية اسلامية
و هو رد مطول و مكبر لجحة كثرت الالسان باقولها حتى ملها الجميل ان العلمانية حل لمشكلة لا نمتلكها و انها صممت لمنع تحكم الكنيسة بالتحكم فى المجتمع و الاسلام لا يمتلك كنيسة اذا فنحن لسنا فى حاجة لها....و مقولة أخرى قيل لنا حتى اتهرئت ان العلمانية تتطبق فى الشرق فقط لحماية "الاقلية" المسيحية فى بلادنا و انهم هم فقط المستفيدون من وجودها
***************
ليثبت لنا طرابيشى ان العلمانية حل لاشكالية اسلامية-اسلامية ايضا ، و كانت البداية المحور السنى - الشيعى
يستعين طرابيشى بكم ضخم من اقتباسات ل ابن كثير و ابن الاثير و السيوطى و غيرهم من مؤرخى الفترات الاسلامية ليثبت الخلاف التاريخى بين السنة و الشيعة و كيف تحول الخلاف السياسى الى دينى بامتياز
من عادات طرابيشى الاثيرة انه يكثر من المقدمات حتى يمل القارئ احيانا ، يطنب و يزيد و يكرر المقدمة تلو الاخرى و المثال وراء الاخر حتى اذا اطلق "اذن" بعد كل تلك ال"بما ان" لا يجد القارئ مجال للرفض مهما كان الحكم قاسيا او صادما و مغاير لرأيه الاصلى
و يطلق رأيه الذى يبدو للوهلة الاولى غريب:
"قد يكون هناك ما هو اخطر و افدح و ادوم اثرا من حرب الافعال هى حرب الاقوال ، فالدماء التى تسفك فى كل حرب فعلية قد تجف مع دفن القتيل و قد يسرى عليها قانون التقدام الزمنى فلا يبقى لها اثر من الذاكرة بعد جيلين او ثلاثة ، اما حرب الاقوال منذ اكتشاف تقنية الكتابة ، حرب قابلة للتجدد باستمرار و لا يسرى عليها قانون النسيان او التقادم"
تتخيل لوهلة ان دم القتلى و اعداد الضحايا مؤثر على القرار البشرى لكن فعلا -و الشكر ل طرابيشى- نتبين التأثير القاسى للكلمات ...و كأن عشرات الالاف من كتب التراث فى السب المتبادل بين السنة او النواصب كما يطلق عليهم الشيعة و بين الشيعة او الرافضة كما يطلق عليهم السنه ، ليست بكافية و عشرات الاوصاف ب "خنزيرية القلب" و "ابناء اليهود" و "السيف المغروز فى ظهر الاسلام" و ما تبعها من فتاوى القتل و تقطيع الاوصال و السبى و الحديث المتواصل المكثف الهوسى عن ثنائية "النجاسة و الطهارة" لم تشفى الغليل ، حتى ظهرت اموال البترول عند الجزيرة العربية من جانب و ايران من جانب لتنعش السوق!
ثم تأتى التكنولوجيا و التواصل الاجتماعى على الشبكة العالمية التى بذل الانسان الحديث مجهوده ليصل اليها ليستخدمها الطرفين ك سلاح جديد لمواصلة الخلاف للتراثى فيما يصفه طرابيشى ب " عالم منفتح تكنولوجيا ، منغلق عقائديا و مذهبيا"
و هذا الهجوم "التقدمى" لزمه نوع اخر باثر رجعى فنرى احاديث منسوبة للنبى فى كتب السنة و الشيعة عن ذلك الخلاف الذى سيشتغل بعد موت النبى بسنين ، و يقدم نموذج النبؤة ك حل تخريجى للمشكلة ...و نجد ان واضع الحديث -و اظن ان المنطق وحده يدحض تلك الاحاديث دون الدخول فى دوامة السند و المتن- قد وضع على لسان النبى مصطلحات "النواصب" و "الرافضة" و هى فى حد ذاتها لاحقة على الخلاف ذاته...فى موضوع تناوله طرابيشى بجد و اجتهاد بل و تحليل رائع فى كتابه الاهم فى رأيى" النشأة المستأنفة" ..
بل ان الامر كان يمكن تشعبه لمحور شيعى-شيعى فنجد فتاوى فقهاء الاثنى عشرية ان من لم يصدق فى ال١٢ امام كامل فى حكم النواصب من حيث الكفر المبين فيضم لل"صفقة" الزيدية و طوائف الشيعة الاخرى ....و ذلك منجم فكرى فى حد ذاته لولا ان طرابيشى فضل ان يذكرها كملاحظات عابرة فى الكتاب الذى بين يدينا
************
حدثتك قبلا عن عادة طرابيشى فى كثرة المقدمات ليرمى على الساحة استناجاته ...و ربما المثال الاوضح ان طرابيشى الذى ظل يسرد لنا صفحات من تراث الفقة و التاريخ طيلة ٩٠ صفحة الى ان يصل بالقارئ لحاجة التشبع ، حين ينطق بالاستناج المكتوب فى بعض وريقات يطيح بالقارئ و يواجه بالحقيقة الصادمة
يرى طرابيشى ليس فقط ان الديموقراطية ليست كافية بل ان العلمانية المعتادة لن تكفى الوطن العربى حتى...بطبيعة الامر الديموقراطية تلعب على وتر الصناديق و دائرة التحالفات و الخصوم و الاغلبيات المتغيرة فهى غير قابلة للتطبيق فى وضع تثبت فيه نسب السكان على اساس طائفى ، و يزيد -صاعقا القارئ قليلا- ان حتى العلمانية بشكلها الطبيعى ك فصل الدين عن الدولة لم يعد ممكنا فى ظل حالة الكراهية المتشعبة المتغلغلة فى تراثنا...ليصل الى استناج ان كى ننشأ مجتمع لا يفجر نفسه بنفسه سنحتاج الى ادخال العلمانية داخل الدين نفسه لتعيده الى طوره الاول ك تجربة روحية و وجدان فطرى منفصل مشاكل تراثه و خلافاته و كراهيته
و سطور قليلة الحجم كبيرة التأثير يشرح لنا طرابيشى لماذا وصل الامر تلك الحاجة الملحة لنكتشف ان ما اسماه "الاسلام الشعبى" اخذ فى الانحسار تاركا مساحات شاسعة للاسلام المؤدلج ليقحم تركة التراث التى تغاضى عنها الجميع كثيرا الى الساحة .....الاسلام الشعبى هو اسلام العامة و العموم و الذى بطبعه ارجع الاسلام -بجهل متعمد- الى اصوله الاولى ، متاخدا تلك الوسيلة ك حل بديل عن لفظ "العلمانية" سئ السمعة فى مجتمعنا
**************
الى هنا ينتهى "تألق" الكتاب و وحدته النوعية لنغرق فى سلسلة من المقالات المتفرقة ينقصها التركيز و يسود التشتت الموقف حين نقرأ مقالات متتالية عن علمانة تركية ، صفحات من مذاكرات عبد الرحمن بدوى و علاقته بالنازية و رد الرد ، مقال مبتسر عن الخلافة كان يستطيع استاذنا ان يجعله كتاب خاص تام لو اراد و الواضح انه لم يرد ، و شذرات عن الالتزام فى كتابات سارتر و خلافه
و يظل التشتت سيد الموقف -معى على الاقل- الى ان نصل لمقال رائع و بحث مكثف يخصصه طرابيشى وسط هرطقاته المتعددة عن ملف الاكراد و كيف فشلت علمانية تركيا ذاتها فى حل الموقف و يروى لنا عن انتفاضات الاكراد ال٣ و علاقتها بانقلابات تركيا العسكرية ...و يختم الفصل الرائع عن صعوبات تكوين دولة الاكراد و تكوين شخصية حقيقة للكردى حتى لو تجاوز المشاكل التأسيسية لها
بل و يتوقع عام ٢٠٠٧ وقت كتابة الكتاب عن شرطية وجود حرب اقليمية على الحدود السورية الايرانية التركية لتقام فعلا دولة الكرد
*************
اشبعنا طرابيشى فى كتابه الصغير من هرطقاته المنورة و كثف لنا مواضيع و افكار بطريقته الذكية فى عدد محدود من الصفحات تتطلع بها على جانب من هرطقات جورج طرابيشى...
دينا نبيل
١٩ فبراير ٢٠١٥